للبحرين تاريخ حافل في النشاط البحري وصناعة السفن الشراعية وصيد اللؤلؤ والتجارة البحرية. فقد ارتاد أهلها منذ القدم الموانئ القريبة والبعيدة، ووصلوا بمراكبهم إلى سواحل أفريقيا وبلاد الهند والسند، وأسسوا جسوراً من التواصل بين جزرهم وتلك البلاد البعيدة، ناقلين إليها التمور وجالبين منها مختلف أنواع البضائع. وقد منحتهم هذه الأنشطة مع مرور الزمن شهرة مدوية وموقعاً متقدماً وخبرات ملاحية مشهودة مقارنة بغيرهم من أبناء منطقة الخليج. ويشهد التاريخ للرعيل الأول من البحرينيين في عصر ما قبل اكتشاف النفط أنهم كانوا مكافحين من أجل تأمين قوتهم وقوت أسرهم، فكانوا يغيبون لأشهر طويلة في غياهب البحار ولجج المحيطات، غير آبهين بأمواجها ودروبها الموحشة وعواصفها الماطرة، حيث لم يمنعهم شيء من ارتياد البحار رغم أهوالها وقسوتها، والابتعاد عن الوطن والأهل والأحباب، لأنهم نشأوا وتربوا وكبروا في أحضان البحر وأصبحوا رجالاً بفضل خيراته، فما إن يبلغ أحدهم أشده حتى يرغب في ركوب السفن بحاراً أو غواصاً أو سيباً أو نهاماً. وقد تطرق المؤرخ الكويتي المرحوم سيف بن مرزوق الشملان، في كتبه ومقالاته الكثيرة، إلى ريادة البحرينيين في النشاط البحري والغوص على اللؤلؤ والوصول إلى الموانئ البعيدة من أجل التجارة، لكنه لم يوفق في حديثه عن أعداد السفن البحرينية، إذ ذكر رقماً متواضعاً جداً لم يتعد الخمسين، بينما الحقيقة، طبقاً لما ورد في كتب المؤرخين عن بلدان الخليج، أنه في العام 1907 مثلا كان يوجد في مدينة المحرق وحدها نحو 700 سفينة من مختلف الأحجام والأنواع، وكان من بينها سفن شراعية يبلغ طولها نحو 60 قدماً وتحمل أكثر من مائة بحار. وليس أدل على صحة ما نقول من الحادثة المأساوية المعروفة ب «سنة الطبعة» والتي تستخدم عادة في الإشارة إلى أحداث وقعت قبلها أو بعدها كما في قولهم «فلان ولد قبل سنتين من سنة الطبعة»، أو «علان يتذكر حريقاً نشب بعد سنة من حادثة الطبعة»، وهكذا. ففي عام 1925، أي بعد 13 عاماً من حادثة سفينة «تايتنيك» التي غرقت في صبيحة يوم 15 أبريل سنة 1912، حلت كارثة مؤلمة بالبحرين وعموم الخليج، بغرق نحو 5 آلاف سفينة وهي في عرض البحر جراء عاصفة بحرية هوجاء (دامت نحو ساعة ونصف الساعة)، سقطت خلالها المحاميل الشراعية وتسببت في موت آلاف البحارة المعدمين قبل يومين فقط من عودتهم إلى ذويهم. وكانت أولى السفن التي غرقت هي سفينة للعمامرة تابعة للنوخذة مبارك بن شاهين العماري. فمن هم العمامرة؟ ومن هو مبارك شاهين العماري، هذا الذي اشتهر بامتلاك السفن الشراعية، وكان يطلق على مراكبه أسماء مختلفة كعادة ملاك السفن قديماً ممن كانوا ينتقون الأسماء لمراكبهم دون قيد، فيسمونها بأسمائهم أو أسماء أولادهم وزوجاتهم وعوائلهم أو أسماء تاريخية وقبلية أو يطلقون عليها أسماء موانئ معينة أو نعوتاً حسنة مثل «سمحان» و«بشارة» و«محمل الخير» و«رمزان» و«مزيون» و«منصور». يعد العماري واحداً من أشهر نواخذة المحرق وأكثرهم ذكراً في التاريخ البحري للبحرين. وقد أتى المؤرخ البحريني بشار يوسف الحادي على تدوين الكثير من التفاصيل عن حياته وعلاقاته وسجاياه ومآثره. فكتب في مدونته ثم في صحيفة الوقت البحرينية (7 /4/ 2008) أنه امتلك عدداً من السفن، لعل أضخمها وأشهرها السنبوك «مساعد» الذي يلغ طوله 27 ذراعاً وعلى جانبيه 24 مجدافاً، وكان يعمل على ظهره نحو مائة من البحارة الأشداء، فأطلق الناس عليه اسماً آخر هو «الفوج» كناية عن ضخامته، علماً بأن هذا السنبوك الكبير غرق في شط العرب سنة 1935 بعد أن استخدم لفترة قصيرة في نقل البضائع. كما أشار الحادي إلى أن مبارك العماري كان رئيساً لجماعته في حيهم المسمى باسمهم، أي «فريج العمامرة». وهذا الفريج (الحي) لمن لا يعرفه هو أحد فرجان المحرق المشهورة، ويقع مقابل مدرسة الهداية الخليفية محاطاً بشارع السوق من الغرب وشارع المطار من الشمال، وكان في الماضي يطل على البحر، فترسو عنده سفن أهل الفريج، ولهذا سكنه العديد من نواخذة البحر. فعلاوة على مبارك بن شاهين العماري سكنه ابنه النوخذة عيسى وأخوه النوخذة محمد وأقرباؤه النواخذة جبر بن محمد العماري وعمرو بن محمد العماري وعلي بن حمد العماري، وصديقاه النوخذة سعد بن عمران الجميري والنوخذة عبدالله بن عمران الجميري وغيرهم. كما سكنته ثلة من أبرز النهامين في البحرين من أمثال خليفة بن سبت العماري وراشد بن علي السليطي وخميس بن نافل ومال الله القلداري. إلى ذلك، يعتبر فريج العمامرة مسكن أو منشأ العديد من الشخصيات البحرينية وغير البحرينية في مختلف المجالات الفكرية والأدبية والفنية والتربوية والإعلامية، ومنهم على سبيل المثال اللاحصري: الشاعر الشيخ عبدالله بن عيسى بن علي آل خليفة والفنان أحمد الجميري والمربي عبدالرحيم روزبه والمطرب علي بن هزيم (والد المطربة أحلام) والمؤرخ الفني عازف الكمان البارع محمد جمال والمطرب القطري من أصول بحرينية فرج عبدالكريم ورئيس تحرير صحيفة الأيام عيسى بن علي الشايجي وشاعر الكويت والخليج المعروف خالد الفرج والأديب المؤرخ مبارك بن عمر العماري ورجل الدولة العماني الدكتور إبراهيم بن حمود الصبحي وغيرهم كثير، طبقاً لتقرير منشور في موقع «الفنر» الثقافي الإلكتروني (18/ 1/ 2021). وبالعودة إلى سيرة النوخذة مبارك بن شاهين العماري المتوفى في العشرين من أكتوبر سنة 1937، ذكر المؤرخ الحادي في ترجمته له أنه كان من المقربين لحاكم البحرين وتوابعها الأسبق عظمة الشيخ عيسى بن علي آل خليفة وابنه وولي عهده الشيخ حمد بن عيسى بن علي آل خليفة، وأنه اشتهر بالكرم والجود والحكمة وقوة الشخصية والسمعة الطيبة، فكانت كلمته مسموعة ومطاعة، وكان مجلسه مفتوحاً طيلة النهار والليل أمام ذوي الحاجة والضعفاء من أهل البحرين، وكان إذا مر على قوم وقفوا له احتراماً واجلالاً، مضيفاً، أن من مآثره التي لا تنسى أنه حفر البئر المشهورة باسم «عين العمامرة» في عام 1926 مع تقسيمها إلى قسمين، أحدهما للنساء والآخر للرجال، علماً بأن هذه العين ظلت لسنوات طويلة تزود سكان جزيرة المحرق بالمياه العذبة، بل كانت تزود أيضاً القاطنين في قاعدة سلاح الجو الملكي البريطاني بالمحرق وعائلاتهم بالمياه الصالحة، فوفر بذلك على نساء حيه والأحياء القريبة قطع المسافات الطويلة سيراً على الأقدام إلى منطقة عراد لجلب الماء. يقول الأديب مبارك بن عمرو العماري، إن أول قدوم لعائلة العماري إلى البحرين كان في حدود العام 1885، حينما وصلت الدفعة الأولى منهم في تلك السنة مهاجرة من شبه جزيرة قطر، فنزلت في منطقة البديع وأسست لنفسها فيها فريجاً باسم «فريج العمامرة»، لكنهم ارتحلوا في عشرينات القرن الماضي برفقة الدواسر إلى شرق السعودية، وتحديداً إلى مدينة الدمام، حيث يوجد حي قديم باسمهم إلى اليوم. ويضيف قائلاً: إن الدفعة الثانية منهم وهم من «فخذ بن شدة» وصلت البحرين في تاريخ لاحق وسكنت المحرق، وتلتها دفعة ثالثة من «فخذ العمرو» سكنت أولاً منطقة البسيتين من المحرق وعملت في الغوص لموسم واحد، قبل أن تترك البسيتين وتذهب للإقامة مع أبناء عمومتها في فريج المعامرة بالمحرق الآنف الذكر، بعد ذلك جاءت دفعات أخرى منهم وانضمت إليهم. ولعل ما يؤكد بعضاً من الكلام السابق هو ما ذكره البريطاني «جون جوردن لوريمر» في الصفحة 88 من الجزء الأول من القسم الجغرافي من كتابه «دليل الخليج» من أن العمامرة، ومفردها عماري، قبيلة فقيرة نسبياً من البحارة، وتتواجد في كل من البحرينوقطر، وأنهم ينتمون إلى فرع عمار المتفرع من قبيلة الدواسر من نجد، وأن لهم في البحرين 40 منزلاً في المحرق ومائة منزل في البديع، كما لهم في قطر 20 منزلاً في الدوحة ومثله في الوكرة، ويبلغ عددهم الإجمالي نحو 900 نسمة من المسلمين على مذهب الإمام مالك الذين يعيشون على صيد اللؤلؤ والملاحة في كل أجزاء الخليج وتربطهم صلة قرابة بقبيلتي آل بوكوارة والمعاضيد. والحقيقة، أن موطن العمامرة الأصلي كما كتب المؤرخ الحادي هو منطقة الأفلاج النجدية، ومنها خرج جدهم الأكبر منسف بن جبران المبارك العماري مع أخيه سلطان، وهم من سلالة جبران من آل مبارك من آل عمار، في طريقهما إلى شرق الجزيرة العربية في النصف الثاني من القرن ال 17. وكان سبب هجرتهم وخروجهم من الأفلاج ما أصاب نجد آنذاك من قحط وجدب. وهكذا وصل الأخوان منسف وسلطان إلى قطر في حدود عام 1688 واستقرا بمنطقة الحويلة، حيث كان يسكن شيوخ ووجهاء قطر، وتصاهرا مع قبيلة البوكوارة المعروفة فرزقا بالبنين والبنات. كان هذا قبل أن يستوطن العمامرة منطقة الفويرط على الساحل الشرقي لشبه جزيرة قطر، وينتشروا في الغاربة والبدع والدوحة والوكرة والزبارة، حيث تولى رئاستهم آنذاك الشيخ منسف، فكان هو أول رؤسائهم ثم جاء من بعده شيوخ آخرون مثل حسن بن مبارك بن حسن العماري وعلي بن خليفة بن جمعة العماري. وفي حدود عام 1888 أو قبل ذلك بعدة سنوات بدأت هجرتهم إلى البحرين على دفعات، كما ذكرنا على لسان الأديب والشاعر مبارك بن عمرو العماري. بحارة العمامرة كان ميلاد النوخذة العماري في بلدة الفويرط القطرية سنة 1874 لوالده النوخذة شاهين بن عمرو العماري ووالدته السيدة عفراء بنت سالم المحمد الهاجري، علماً بأن والده لم يرزق من والدته إلا به وبشقيقه محمد. وقد درس مبارك في الكتاتيب التقليدية، فتعلم القراءة والكتابة وحفظ القرآن الكريم. وحينما هاجرت جماعته إلى البحرين كان هو في عدادهم. وفي البحرين كافح من خلال العمل في البحر والغوص كعادة أهله وعشيرته إلى أن منّ الله عليه برزق وفير، فامتلك أسطولاً من السفن متنوعة الأحجام والأغراض. فبالإضافة إلى السنبوك «مساعد» الذي أتينا على ذكره آنفاً، كان يمتلك السنبوك «منصور»، الذي صنع خصيصاً لحسابه عام 1909 والجالبوت «سعيدة» الذي غرق في سنة الطبعة وتم قطره وإصلاحه وإعادته للعمل على الغوص فيما بعد، فأطلق الناس عليه تشاؤماً اسم «جهنم». وكان رحمه الله يختار من الرجال للعمل على سفنه الأشد والأقوى، نظراً لحاجة الأنشطة البحرية إلى الصلابة والقوة؛ لذا فإن الشديد الصلب من البحارة كان يقال عنهم في مجتمع الغوص البحريني القديم بأنهم بحارة العمامرة. مكانة النوخذة العماري وسط أهله ويذكر التاجر الكويتي المرحوم خالد بن عبدالعزيز السعدون، الذي عاش في البحرين وكان لديه محل تجاري في بناية هلال المطيري في المنامة، أنه عمل محاسباً في مقتبل عمره لدى النوخذة مبارك بن شاهين العماري وكان الأخير يأخذه معه في أسفاره وفي زياراته إلى مجالس كبار التجار والشخصيات الخليجية ممن ارتبط بهم بعلاقات وثيقة، كما كان يعلمه وينصحه ويوجهه. وهناك قصيدة كتبها والد الأديب الشاعر مبارك بن عمرو العماري يشكو فيها حاله لابن خاله النوخذة مبارك بن شاهين العماري (المترجم له) ومطلعها: أرى في الليال البيض ما كدر الصافي مريض أنا قلبي ولا هوب متعافي نحيل أنا جسمي على فقد خلتي ولي عبرة تذرف كما الغيث هتافي من وجعة بأقصى ضميري تمكنت طرت فؤادي كنها طر الأسيافي وهذه القصيدة تعد دليلاً على مكانة النوخذة العماري وسط أهله وعشيرته، وكيف أنهم كانوا يلجأون إليه للشكوى إذا ما حلت بهم مشكلة. وملخص الحكاية، كما رواها الأديب مبارك بن عمرو العماري في دراسة له منشورة بصحيفة الوقت (مصدر سابق) هو أن والده تزوج بفتاة من إحدى قبائل الساحل الشرقي للمملكة العربية السعودية وجاء بها الى البحرين وعاشت معه فترة من الزمن، لكن حياتهما الزوجية لم تكن مستقرة، وعندما زارها أخوها في إحدى المرات اشتكت له من انشغال زوجها عنها، فما كان منه إلا أن توجه إلى الأخ الأكبر لزوج أخته واسمه «جبر بن محمد العماري» طالباً منه أن يأمر أخاه بتطليق زوجته كي تعود معه إلى السعودية، وقد استجاب جبر للطلب وأمر أخاه بتطليق زوجته، ففعل راضخاً دون نقاش من باب الاحترام والانصياع لأوامر الأخ الأكبر في العائلة. ثم جلس على ساحل البحر منكسر الفؤاد يراقب طليقته وهي تختفي عن ناظريه على ظهر سفينة مبحرة غرباً، وأنشد تلك القصيدة شاكياً حاله لعميد العائلة مبارك بن شاهين العماري.