بلد حوته العزلة، وضاق به الكون الفسيح، لينثر على سفح جبل مسكنه؛ فقد اعتاد الوحدة شعاره، والانطواء ملاذه، هرباً من مجهول لا يدركه، ومستقبل لا يستشرفه. كانت المثالية حياته، فلا يرضى بالتقصير، ولا يروق له ضعف التدبير، ويرى الخروج عن المألوف من معضلاته، والتقليد من مكملاته. كان به بحار عشق مهنته، نثر شباكه باقتدار، لجمع ما لذ وطاب، فقد اعتاد صنعته، وأتقن حرفته، واستوطنه الصيد، وتملكه الفضول لتوسيع نطاق صيده. ذات يوم ابتعد بمركبه لأعماق البحار، ليدنو عليه الليل، وينشر ظلامه، ويسكن البحر، ويهدأ موجه، فإذا بوميض في الأفق شد نظره، ولفت انتباهه، ليتسلل إليه في اندهاش، ويقترب منه في حالة جمود وانزعاج، فلم ير مثله في حياته، ولم يلامس طيفه في تجاربه. اقترب ببطء نحو ما يجهله، يتملكه الخوف والرهبة، وفي حالة كسر لجمود تفكيره بدأ في تفسير بريقه، وتحليل طيفه؛ لتظهر ملامح مختلفة لم يعهد رؤيتها، ولم يعتد معايشتها. طرق ممهدة، وضوء يظهر ملامح الطبيعة، وحركة مركبات تتنقل بطريقة منظمة، وبنايات غريبة تمتد لارتفاعات مذهلة؛ ليعيش في لحظة صمت يرافقها ذبول. تقدم بخطى ثقيلة، يجر خلفه رغبة البقاء في فلكه الضيق؛ لتذهله مقومات المدِينة، وثقافة المدَنيّة؛ طب، وصناعة، واقتصاد، وجودة حياة، إنها لحظة إدراك! محورها إطار ضيق، داخل صندوق مغلق، ظل حبيس سكونه. كذلك العقل عندما يكون عدواً لما يجهله، فالسرد أعلاه محاكاة لعقل جامد حدوده التقليد، ومقاومة التغيير. رزقك الله عقلاً ميزك، فلا تتركه حبيس قيوده، بل نوّره بالمعرفة والتحليل والتفسير والقراءة؛ ليبحر بتفكير ناقد، مرتقياً مراكب النجاح والتقدم والإبداع.