من الإعتام يولد التفكير . الاهتمام بالمعرفة، يتطلب حركة غنية بالتغيّر والتجدد، والمآزق الفكرية والأسئلة المتوالدة شرارة مهمة لإحداث تغيير في الرؤى والقناعات، ففي الاعتام والغموض تتخلّق الأسئلة وفي حضن القلق يولد التفكير، وكلما اشتدّت درجة الإعتام ازداد غنى التفكير، فالمتسائل يمرّ بلحظات إعتام يرى فيها الأشياء غامضةً أحياناً. وفي بعض الأحايين يراها رمادية مربكة، لا تبعث على الاطمئنان، حتى يسكنه البحث الحثيث، ليجد في بحثه عن المعنى ما لا يحصى من المباهج المعرفية، بشرط استمرار صوت قرع الركض نحو التغيّر الذهني، فمن لحظة التوتر تبدأ رحلة التفكير، في شدة الظلمة تضرم شرارة السؤال نيران المراجعة، إلى أن يذهب الإنسان بتفكيره وجهده نحو صناعة الأسئلة وإنتاج الأجوبة، وهكذا تتجدد الذات ويتحرّك نبع العلم وتنمو فسائل الحياة، وتأخذ آلية التفكير حركتها فتنشر صوراً ذهنية جديدة، وتخلق واقعاً ذاتياً آخر، وتصنع رمزية دلالية غنية. كأن لحظة التفكير نقلة في سير التفكير الذاتي والتطوّر والتجدد، ولا يقوم الفكر على السكون والتصلّب والتحجر، وحينما يتجه الإنسان إلى التفكير وينبض بالتغيّر يجرّ معه أسئلته ومعرفته، يخلطها بأسئلة ومعرفة أخرى، ليبني عليها معاني ثرية تنتج أسئلة أكثر ثراءً وجدة، وهذه هي ميزة تجديد الحياة بتجديد التفكير، وتجديدها بتحميض الصور التي نشاهدها بتحليلها وقراءتها. إنها حركة ذاتية، فالنهر –حسب هيراقليطس- «لا يعبر مرتين» ونحن «لسنا نفس الشخص في لحظتين متتاليتين» فنحن يجب أن نكون في حركة نشطة باتجاه المعنى والمعرفة، بكشف عرى الجهل وطمسها بالمعرفة هذه هي قيمة التغيّر والتجدد التي تعطي للإنسان حيوية ونشاطاً فتأخذه إلى حيث اكتشاف الأشياء واكتشاف الذات، إن التغيّر بمعنىً ما إخلاص للحق فهو جريان مع الحق ولحاق به، أما السكون والتصلّب فهما حالة جامدة تنبئ عن ذهن رجراج ينفر من المعرفة والسؤال. يولد الإنسان في بيئة اجتماعية محددة، تشربه عاداتها وتقاليدها، وتعلمه أبجديات الحياة والتقاليد، إلا أن تلك التعليمات تبقى مخزوناً مهماً، ولكنها لا يمكن أن تكون عائقاً عن صناعة قناعات أخرى، عبر التفكير بطرقٍ جديدة، خلاف ما تطرحه المؤسسات المعلبة والجماهير الموجّهة، وهذه هي ميزة اكتشاف الفرد لذاته، أن يفرّ بها نحو خلجاته الشخصية، وأن يمرّر أسئلته على كافة الأضواء المعرفية والعلمية، بعد أن يكون مؤهلاً لاختيار طريقة تفكيره وآلية تعاطيه مع معترضات حياته، ومعترضات عقله. الإنسان الحيّ يكتشف باستمرار مساحات شاسعة من جهله، وذلك عبر قراءته المتعددة، التي تفحص له عقله ومخزونه العلمي، فيعود إلى ذاته مكملاً لها. ويتجه إلى المعرفة والعلوم يختزن منها ويدرس حالة السطح الذي يعيش عليه، ويستثمر مخزونه العلمي والمعرفي في طمس مساحات الجهل، فميزة العالم أنه باستمراره في التعلم يبيّن أن رحلته في طمس الجهل مستمرة، أما الجاهل فيكتفي بما درس ويضيّع وقته الباقي في إخفاء الجهل، وربما كانت المؤهلات العلمية التي وضعها الإنسان وسيلة لإخفاء الجهل ونزع القداسة العلمية على الاسم. إن المعرفة عند اليونان هي «شمس أخرى» يختزنها المتعلم والباحث عن المعرفة في عقله، ويستطيع أن يستثمرها في وجوده، وأن يمحورها لتصبح وسيلة لإنتاج القناعات والأسئلة في آنٍ واحد، والتحقير لمن يتغيّر والنظر بازدراء له أو تصنيفه على أنه يعاني علّة ما حيلة خصامية، فإن في بعض العلل ما يدفع إلى الإنتاج، فكثير من الفلاسفة والعباقرة لازمتهم العلل النفسية أو الجسدية، فالتغيّر مصدره ليس جسدياً أو نفسياً وإنما «جذوة السؤال» التي لا تهدأ وتصبح كالعلقة في حلق الإنسان حتى يجدد أجوبته لتخفّ حدة السؤال وتذهب برودة الإجابة/ نار السؤال اللاهبة. إن التغيّر باتجاه الحركة والحياة، ليس عيباً، وإنما العيب في التصلّب والجمود، وعدم التصالح مع مستجدات العالم، والتقوقع داخل صناديق من القناعات الحصرية التي لم يساهم هو في تكوينها وإنما أمليت عليه قسراً أو تشربها بوسائل سطحية، بينما التغيّر إعلان عن دخول مرحلة من التفكير جديدة يكون فيها الإنسان مسؤولاً عن أفكاره وآرائه، ويكون فيها التغيّر شاهداً على جريانه في نهر الحياة، وعلى حيويته في التفاعل مع عقله، من المؤسف أن يظلّ الإنسان حبيس أفكارٍ سطحية تكرر له دوماً من دون أن يكون لآلة عقله دور في تطويرها وإنتاجها، إن هذا الانحدار هو السكون الذي يؤسس للأسن المعرفي، إذ المعرفة والحياة كالنهر تصير باستمرار وتتغير وتجدد صورها فتغيّر الإنسان نحو قراءة التجدد والصور الجديدة هو عمق ذاتي واكتشاف عميق لكينونة ذاتية ليس من السهل شرح معناها وفحواها لأنها مغرقة في وجدها. فهد بن سليمان الشقيران. [email protected]