منذ مطلع هذه الألفية وأنا أحاول الاشتغال على تعزيز أدوات التلقي لدى القارئ العربي الذي تستهدفه النصوص، ذلك أن النقد الأكاديمي يبقى في الغالب رهين ساحات السجال الجامعي والملتقيات الخاصة بالنُّخب الأكاديمية، وهو إلى ذلك ينحو باتجاه التنظير أكثر مما يسعى لتقديم تطبيقات إجرائية على نصوص شعرية أو سردية عربية يمكن أن تسهم في مدّ القراء العرب بآليات تلقٍ نقدية حديثة، كما أنه، أعني النقد الأكاديمي، لا يسهم في سدّ فراغ التطبيق النقدي، الفراغ الذي كرّسته الجامعات ذاتها بإصرارها على تدريس علوم البلاغة العربية، وكأنها إرثٌ مقدّس، وهو الإصرار الذي لا يفسّر انحياز الجامعات في العالم العربي إليه، إلا أربعة أسباب كما أعتقد؛ أولها أن القائمين على إقرار المناهج فيها يربطون بين البلاغة العربية وعلومها وبين القرآن الكريم وعلومه، وبشكل أقل بينها وبين الشعر العربي القديم، فجعل هذا الأمر البلاغة جزءاً من إرثٍ مقدّس، وإن لم يكن ذلك الإرث البلاغي فاعلاً، وثانيها؛ فقر أساتذة الجامعات، إضافة إلى كسلهم البحثي في ما يتعلق بالاتجاهات النقدية اللسانية، فمثل هذه الاتجاهات كانتْ، وستكون على الدوام، بالنسبة لبعض الأكاديميين في العالم العربي عِلماً مجهولاً، ولبعضهم الآخر مجرد مشروع خاص، بحيث لا يُراد منه تغيير شيء على مستوى الأقسام في كليات اللغة العربية أو كليات الآداب، فبقي الوضع على ما هو عليه: جامعة تُدرِّس أقسامُها لطلابها الطباق والجناس والتورية، ثم ينطلق أساتذتهم للجدل الخاص في منتديات ثقافية يحضرها من لا يحتاجها لاستعراض الترجمات وتقديم البحوث لنيل الدرجة العلمية والترقي الوظيفي لا أكثر. وثالث هذه الأسباب؛ يعود إلى ضعف حركة الترجمة من اللغات الأخرى إلى اللغة العربية، وتحديداً ترجمة التطبيقات النقدية، للاستفادة منها ومن منجزاتها في رفع ثقافة المبدع والناقد والمتلقي العربي، أما رابعها؛ فعائدٌ بدرجة كبيرة إلى طرفي المعادلة: المبدع المنتج للعمل الأدبي ومقابله المتلقي الذي يتلقف ما ينتجه الكتّاب بطريقة آلية جعلت من النصوص مجرد تقاليد، تُنتج من قِبَل الكتّاب على ضوء مثال سابق، أمّا من جهة القرّاء فيتم تلقيها في ضوء خبرات غائمة عائمة تختلف من متلق إلى آخر، فكانت نتيجة هذه العملية المتناسخة أن نجحتْ الجوائز الأدبية والمؤسسات الثقافية والإعلامية في توجيه القراء نحو أعمال أدبية قد لا يكون مبرر فوزها أو تقديمها مبرراً إبداعياً، بل لقد انتشر النقد الصحفي ونقد كتَّاب الأعمدة الذي هو، في غالبه، مجرد عروض تقديمية تخضع لآليات «سوق كِتاب» لا يدرك القارئ العادي وجوده فضلاً عن إدراك خفاياه والنزعة التسليعية فيه، ولا يعي جوانبه المادية التي يتم بناؤها بشكل مقصود، أو حتى غير مقصود، بين الناشر والصحف وكتّاب الأعمدة اليومية أو الأسبوعية. بل إن العملية المتناسخة لإنتاج النص، وفق نماذج عالمية أو محلية، وقراءته في ضوء ذات الآلية جعلتِ القراء العرب يتجهون لمعيار وحيد للحكم على النصوص؛ ألا وهو «المتعة» دون سواها. فانتشرت النصوص الممتعة وتزايد قراء تزجية الوقت، بينما بقي فريقٌ من كتَّاب العالم العربي وقرائه يجتهدون في إبقاء النمط القديم للكتابة وطرائق تلقيه على حد سواء، ما جعل الوقوف على الأطلال في قصيدة عربية مكتوبة في الألفية الثالثة أمراً غير مستغرب، فالشاعر حارس للموروث، والمتلقي مريدٌ بلاغيٌ؛ لا يزال يؤمن بأن التجديد في الكتابة الأدبية ليس إلا تطاولاً سافراً على الإرث المقدّس لهذه الأمّة. في ضوء ما سبق، كنتُ قد بدأتُ الاشتغال عام 2002 على النص السردي الروائي «الغيمة الرصاصيّة» للشاعر السعودي الراحل علي الدميني، وفق النظرية السيميائية، وهي محاولات أولية لم يُكتب لها أن ترى النور، لكنها كانت تدريباً مكثّفاً تلمستُ به الطريق التي نتج عنها كتابي الأول في النقد؛ «فقه الفوضى» 2005، دراسة تأويلية في رواية «الفردوس اليباب» للروائية السعودية ليلى الجُهني، ثم جاء بعده بخمسة أعوام كتاب «إله التدمير» دراسة نفسية تأويلية في رواية «الإرهابي 20» للروائي السعودي عبدالله ثابت. إلا أنني بعد صدور الكتابين، بدأتُ أشعر بأن الحاجة ماسّة إلى بلورة إطار نظري لمشروعي المتجه نحو القارئ، فكان كتاب «عصر القارئ» 2011، وهو الكتاب الذي شرحتُ في مقدمته مشروعي حول النقد التطبيقي، إذ لا بد من التوجه نحو تطبيق النظريات النقدية الحديثة على النصوص العربية، وتبسيط تلك التطبيقات لتكون في متناول القارئ العادي، فَقُراء العربية هم ضحايا أقسام البلاغة والنقد في الجامعات العربية التي ما فتئتْ تزودهم بأدوات تلقٍّ تقليدية شكليّة في عمومها، مقابل نصوص لم تعد تلك الأدوات صالحة للتطبيق عليها. وما دفعني إلى كتابة «عصر القارئ» عائد، بالدرجة الأولى، إلى يقين خاص حول ضرورة دعم القارئ العربي بالأدوات الحديثة لتلقي النّص، فنحن نحيا «عصر القارئ» كما يقول رولان بارت، وبدون أن يمتلك القارئ الأدوات الملائمة للتواصل مع النّص الحداثي فإنه لن يكون قارئاً إيجابياً يسهم في إعادة إنتاج معنى ما يقرأ، ولاسيما أن من أبرز سمات النص الحداثي هي السمة المتعلقة بقابليته لتعدد المعنى، وبتعدد قرائه تتعدد معانيه، شريطة أن يكون هؤلاء القراء ممن يمارسون دورهم في سبيل إنتاج معنى النّص، وفهم مغزاه، في ضوء مقدراتهم الأدبية المتباينة، وفي ضوء ما تدعمهم به موسوعاتهم، على اختلافها، من مهارات ومعارف. فلا مناص إذن، والحال كذلك، من تدريب القراء على تشكيل أساليب نقدية ذات فاعلية في مواجهة النصوص بدلاً من تركهم للناشرين العرب لتشكيل وعيهم، من خلال كتّاب الصحف والأعمدة المقالية المتواطئة على التسويق أكثر مما هي مهتمة بتقديم أطروحات نقدية جادة ومؤثرة، أو أن يُترك القارئ العربي لتفضيلات الجوائز العربية، وحتى العالمية، تلك التفضيلات التي لا تخضع لمعايير نقدية بالضرورة، فكم من ديوان شعر فاز بجائزة وهو لا يستحق، وكم من رواية حصلتْ على جائزة فكان مستواها صادماً.