في الأساس: القانون الدولي مخاطبةٌ به الدول، تُحَّدَدُ فيه التزاماتها، كمقدمةٍ، للتمتع بامتيازات العضوية في المجتمع الدولي، صوناً لسيادتها. حب الدولة للسلام من أهم التزامات عضويتها في مجتمع الدول. حب السلام يتطلب التزام الدول بالطرق والوسائل السلمية لفض المنازعات وحل الصراعات في ما بينها.. وعدم اللجوء لاستخدام القوة، إلا في الحالة النادرة الوحيدة (الدفاع عن النفس). في المقابل: حق الدفاع عن النفس للدول، ليس حقّاً مطلقاً للدولِ منفردةً، بل هو حقٌ جماعيٌ معنيٌ به النظام الدولي، أكثر منه الدولة، نفسها، لكونِ السلامِ قضيةً أممية عُلْيَا. أمّا حقَ تقريرِ المصير للشعوب، فهو حقٌ أصيلٌ غير قابلٍ للتصرفِ، مطالبة الدول والمجتمع الدولي باحترامه والعمل على إنفاذه لتصفيةِ الاستعمار ومقاومة الاحتلال، كمقدمةٍ أساسيةٍ لقيام الدول المستقلة الحديثة، وتأهيلها لعضوية المجتمع الدولي. لقد انتهى القانونُ الدولي وعُرْفُ التعامل الدولي، بتحديد صورتين لمشروعيةِ المطالبة بحق تقرير المصير للشعوب. الأولى: الحق باستخدام كافة الوسائل، بما فيها النضال المسلح، للتخلص من الاستعمار والاحتلال الأجنبي. الثانية: مساعدة الأقليات، التي تخضع للتمييز والفصل العنصري، داخل الدولة، للتمتع بحقها في تقرير المصير. هاتان الصورتان، في حالة نادرة، تنطبق على الشعب الفلسطيني. من هنا: يفاضل القانون الدولي، في حالة مشروعية استخدام القوة بين حقِ الشعوبِ في تقريرِ المصير.. وبين التزاماتِ الدولِ، بتقييدِ لجوئها للقوة، حتى في حالة دفاعها عن النفس، بشروطٍ وضوابطٍ صارمة. بدايةً: الفلسطينيون، عند لجوئهم للقوة، كما حدث في السابع من أكتوبر الماضي، إنما يمارسون حقاً طبيعياً أصيلاً، وفقاً للقانون الدولي، لتصفية الاحتلال الإسرائيلي لأرضهم.. ومقاومة سياسة الفصل والتمييز العنصري ضدهم، من قبل «دولة» إسرائيل. إسرائيلُ، من الجانب الآخر، هي أولاً وأخيراً دولة عضو في الأممالمتحدة، عليها أن تفي بالتزامات العضوية، قبل أن تتحجج بذريعة الدفاع عن النفس، لارتكاب جرائم حرب وجرائم إبادة جماعية ضد الفلسطينيين. ردةُ الفعلِ المفرطةِ في غشوميتها وتجاوزاتها، لالتزاماتِ الدولةِ تجاه عضويتها الأممية، لا يمكن بأي حال من الأحوال اعتبارها دفاعاً مشروعاً عن النفس. في حقيقة الأمر: إسرائيلُ لم تتعرض لاعتداء من دولة، بل إسرائيلُ نفسها، لها سوابق تاريخية في العدوان على جيرانها (الدول). حتى لو وسعنا مفهوم الاعتداء ليضم أطرافاً غير دولية، فإن إسرائيلَ لم تتخذ الإجراءات اللازم اتخاذها، قبل أن تلجأ منفردة لاستخدام حقها في الدفاع عن نفسها. إسرائيلُ لم تخطر مجلس الأمن، وتطلب مساعدته لرد الاعتداء عنها، باعتبار الاعتداء، في هذه الحالة، ليس عدواناً على دولةٍ عضو في الأممالمتحدة، بقدر ما هو اعتداءٌ على سلامِ العالمِ وأمْنِهِ. ثم إن الاعتداء، نفسَه، لم تترتب عليه آثار دائمة أو مستمرة، كاحتلالِ جزءٍ من إقليم إسرائيل، ومن ثَمّ اتخاذها حجة الدفاع عن النفس ذريعة لارتكاب جرائم حرب وإبادة جماعية، ضد الفلسطينيين في غزّة، انتهاكاً. كما أن على إسرائيلَ، قبل أن تتصدى منفردة لرد الاعتداء عليها، استئذان، أو على الأقل إخطار مجلس الأمن، بما هي مقدمةٌ عليه منفردة، إذا لم يتخذ مجلس الأمن إجراءً جماعياً في هذا الصدد. ثُمّ أن أي إجراء تتخذه إسرائيل (الدولة) للدفاع الشرعي عن النفس، لا بد أن يكون متناسباً (Proportionate)، لا أن يتجاوز حدودَ الضررِ الذي لحقها منه، لتعطي نفسها حصانةً لارتكابِ جرائمَ حربٍ وجرائمَ إبادة جماعية. كل ما فعله الفلسطينيون، ذلك اليوم، إنما هو عملٌ من أعمال التحرر الوطني، مشروعٌ، قانونياً وأخلاقياً، كفلته المواثيق الدولية، لكل شعبٍ يسعى لمقاومةِ الاحتلالِ والتخلصِ من ربقةِ التمييز والفصل العنصري ضده، الذي مارسته «دولة» إسرائيل، طوال سبعة عقود ونصف، ضاربةً بعرضِ الحائطِ كل القرارات الدولية، ذات الصلة، التي صدرت من الأممالمتحدة، مؤكدةً حقَ الشعبِ الفلسطيني في تقريرِ مصيرِهِ، بقيامِ دولته المستقلة كاملة السيادة، أسوة ببقية شعوب العالم. أحداث السابع من أكتوبر الماضي، وما تبعها من حربِ إبادةٍ ترتكبها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني في غزّةَ، تعكس نموذجاً عنيفاً نادراً للصراع بين ثنائية التزامات الدول وحقوقِ الشعوب، يعكس كم هي (حقوقُ الشعوبِ) مُقَدّمَةٌ، قانونياً وسياسياً وأخلاقياً، على امتيازات عضوية الدول في مؤسسات النظام الدولي، وفي نظر القانون الدولي الإنساني.