يعد قطاع التعليم أهم مجالات الحياة الاجتماعية والاقتصادية، ويلعب دورًا حيويًا في تطوير وتحسين المعرفة والمهارات لدى الأفراد، وتأهيلهم بالقدرات البشرية لمواجهة التحديات في مختلف مجالات الحياة. منذ عقود، بدأت بعض البلدان تدرج في أنظمتها التعليمية معايير الاستقلالية والرقابة المسلكية، وتطبّقها على المؤسسات التعليمية لديها، من أجل رفع جودة التعليم والانضباط. تعد مفاهيم الاستقلالية المنضبطة والرقابة المسلكية ركيزة أساسية في أنظمة قطاع التعليم؛ كونها تتضمن تفويض كافة الصلاحيات للقائمين على المؤسسات التعليمية، المتمثلة في اتخاذ القرارات والتصرف بمرونة إدارية ومالية وتعليمية، وفقًا لتقديرهم ومعرفتهم بالاحتياجات المكانية. إن تمكيّن الأكاديميين والمعلمين من حرية التصرف والتكيف مع احتياجات البيئة التعليمية يجعلهم أكثر نشاطًا وحيوية وفعالية؛ ويسهم في خلق بيئات تعليمية جاذبة. كما أن اقتران الاستقلالية بالرقابة المسلكية في العملية التعليمية يضمن نجاح عملية المرونة وتقييم ومراقبة الأداء والسلوك والتطور التعليمي للمعلمين والطلاب في المؤسسات التعليمية. كما تهدف هذه الرقابة إلى ضمان تحقيق أعلى مستويات الجودة والتميز في التعليم من خلال استخدام مجموعة متنوعة من الأدوات والتقنيات الحديثة لتقييم الأداء وتحليل البيانات المتعلقة بالتعليم، كلاهما يلعبان دورًا حاسمًا في التكامل والتأثير على جودة التعليم وفعاليته، ويعدان أمرا أساسيا لضمان تقديم تعليم ذي جودة عالية، تتحقق فيهما الأهداف الرئيسية التعليمية. من هذا المنطلق، أعلن معالي وزير التعليم يوسف البنيان، خلال حديثه هذا الأسبوع في مجلس دعم المنشآت عن الاستثمار في قطاع التعليم، مؤكدا أنه من بداية العام المقبل 2024م، سيكون دور وزارة التعليم تنظيميًا وتشريعيًا فقط. أي أنها ستفوض إدارات التعليم في المناطق كافة الصلاحيات دون تدخل تنفيذي من الوزارة، مما يخلق نوعا من المنافسة والتطوير المستمر والمستدام في العملية التعليمية، وتركيز المسؤوليات من خلال الإشراف والمراقبة المهنية والتعليمية والمسلكية بحسب الاختصاص المكاني لكل إدارة تعليم، مشيرًا إلى أن الوزارة لديها رغبة بأن تكون المناهج مهارية بشكل أوسع. كما اعتمد مجلس الوزراء منذ أكثر من ثلاث سنوات نظام الجامعات الجديد، والذي تضمن في مجمل مواده «الاستقلالية المنضبطة للجامعات»، وأعطى حرية اتخاذ القرارات وإدارة العملية الأكاديمية والإدارية والمالية؛ دون تدخل مباشر من وزارة التعليم، حيث إن الجامعات لديها الحرية في تطوير مناهجها وتنظيم عمليات التعليم والتعلم واتخاذ جميع القرارات المتعلقة بها، ومنحها مرونة كبيرة للتكيف مع احتياجات منسوبيها، نحو تحقيق الأهداف الأكاديمية والمسؤولية المجتمعية، وضمان جودة المخرجات وتحسين الأداء والمنافسة في التصنيفات العالمية، دون الإخلال بالأهداف والسياسات التعليمية والأكاديمية والبحثية. تتداول الأوساط الأكاديمية والتعليمية النقاشات حول مدى نجاح التجارب السابقة، وأهمية تطبيق مفاهيم عملية التوازن بين الاستقلالية والرقابة المسلكية في الميدان الأكاديمي والتعليمي، وذلك بعد أن تم تطبيق معايير الاستقلالية في النظام الجديد للجامعات على ثلاث جامعات سعودية منذ عام 2020م، وكذلك ترقب تطبيقه على إدارات التعليم العام مع بداية العام القادم 2024م. لعلنا نسلط الضوء على حول بعض التجارب العالمية الرائدة، التي طبقت مفاهيم الاستقلالية والرقابة المسلكية على مؤسساتها التعليمية منذ عقود مضت. جاء نموذج نظام التعليم الفنلندي، فنلندا، من بين أفضل الأنظمة التعليمية في العالم. فقد تميز هذا النظام بالاستقلالية العالية للمعلمين والمؤسسات التعليمية. في فنلندا المؤسسات التعليمية تتمتع بحرية كبيرة في تصميم مناهجها وتنظيم عملية التعليم، وهذا قد أدى إلى تحقيق نجاح كبير في مؤشرات الجودة التعليمية عالميًا. كما يعد النموذج الهولندي، في هولندا، من التجارب الناجحة لتحقيق التوازن بين الاستقلالية والرقابة المسلكية، هناك المؤسسات التعليمية تتمتع بالاستقلالية في اتخاذ القرارات المتعلقة بالبرامج والمناهج، وفي الوقت نفسه، تقوم الحكومة بالرقابة وضبط الجودة للتأكد من تحقيق الأهداف التعليمية. أما النموذج الكندي، في كندا، يتميز النظام التعليمي بالتوازن بين الاستقلالية والرقابة المسلكية. المدارس والجامعات لديها درجة كبيرة من الحرية في تطوير مناهجها، وفي الوقت نفسه، هناك نظام رقابي قوي يتمتع بالقدرة على مراقبة الجودة. هذه التجارب الناجحة، تشير إلى أهمية تطبيق التوازن المثالي بين الاستقلالية والرقابة المسلكية في قطاع التعليم. فلم يَعد هناك مكان للمركزية في اتخاذ قرار يحول دون الإبداع والتطوير في البيئة التعليمية، كما أنه لا يوجد استقلالية كاملة دون رقابة مسلكية تحافظ على الانضباط، وتضمن جودة التعليم في البيئة التعليمية والأكاديمية. إلا أن التحدي الحقيقي يكمن في عملية تطبيق التوازن بين الاستقلالية المنضبطة والرقابة المسلكية في البيئات الأكاديمية والتعليمية. نحن على يقين تام بأن وزارة التعليم تدرك أهمية التحسين والتطوير والانضباط وتسعى لتمكين المؤسسات التعليمية وتزويدها بالموارد والأدوات الضرورية اللازمة لضمان نجاح مفاهيم الاستقلالية، كما تدرك الوزارة أهمية التحول الرقمي، والأتمتة، والحوكمة في جميع الخدمات، بهذا تضمن الوزارة نجاح عملية التوازن وجودة التعليم في بلادنا، وخلق بيئات تعليمية مناسبة، تقدم تعليما مكانيًا تكيفيًا ذا جودة عالية، تلبى فيه احتياجات جميع منسوبي قطاع التعليم والمجتمع.