في الجغرافيا الأوروبية، تُعرف الفترة التاريخية الممتدة ما بين منتصف القرن الرابع عشر ومطلع القرن السابع عشر الميلادي ب«عصر النهضة Renaissance»، العصر الذي تميز بحراكٍ فكري فلسفي وثقافي، ألقى بظلاله على الحياة الاجتماعية، في مسارات عديدة أبرزها إعادة توجيه الفكر في دراسة العلوم المختلفة بعدسة التحليل والبحث العميق. فظهر علماء مؤثرون في تخصصاتهم قدموا مساهمةً كبيرة في خضم التحولات القريبة والبعيدة للنهوض؛ حيث كان للفن أثر في إيطاليا وللثورة الصناعية قاعدة في بريطانيا. إن النهضة، في التصور المأمول، تعني الاستمرارية وعدم الاكتفاء، فهي روح التجديد التي بدورها تظهر إبداعات المرء بتنوع معرفته وتُبرز المجتمع بحضارته وقيمه. وفي هذا الصدد، ولأهمية التغيير في المعرفة، أطلق المؤرخ والفيلسوف البريطاني برتراند راسل وصفًا بقوله: «إن العالَم الجيد يحتاج إلى المعرفة واللطف والجرأة، إنه ليس بحاجة إلى الحنين إلى الماضي أو تقييد العقل الحر...». ولأن «المقارنة التاريخية» تعتبر من الأمور المضيئة التي يركز عليها المؤرخون لدراسة تطور ما، تحليل الظواهر التاريخية، وتتبع تأثير الأفكار بمفاهيمها وسياقاتها المختلفة؛ فمن المهم تسليط الضوء على النهضة السعودية الحالية. فالأثر الذي أحدثته الولادة الفكرية في المجتمع الأوروبي من تنوير لمفهوم العلم ودوره البنّاء المرتبط بتفعيل وظيفة العقل في النهوض الحضاري من حيث اكتشاف الذات والانتقاء ومواكبة متطلبات العصر، نجد ذلك كله في طليعة أهداف «رؤية 2030 النهضوية» الرؤية التي تميزت باستيعابها المجالات المهمة والحاسمة لتحقيق الطموحات من تعليم واقتصاد وسياسة وصحة وثقافة. في حين أن العامل الاقتصادي لم يكن دافعًا رئيسًا في أطر المفهوم الذي استند عليه الأوروبيون إلى التغيير في بداية نهضتهم، فإنه عنصر مهم في الخطط الكبرى للمملكة بحكم مواردها الطبيعية الوفيرة. الجدير بالذكر أن مدنًا إيطالية كفلورنسا وجنوة كانت تشتهر بالتجارة والفن، والسبب في ذلك يعود إلى جاذبيتها لطبقة التجار؛ الأمر الذي ساهم في تعزيز المظهر الثقافي والمعماري لتلك المدن. يمكن ملاحظة حالة تشابه لذلك في أن النهضة السعودية لم تُغفل دور الشركات العالمية الكبرى في جذب الاستثمارات لدعم خططها والمساهمة في تحديث وتطوير مدنها. مع الأخذ بعين الاعتبار بالإمكانيات المادية والصناعية، التي تتميز بها التجربة السعودية، في تقييم هكذا نوع من التشابه. وبعد قراءة فاحصة لبدايات عصر النهضة الأوروبي، بالطبع مع مراعاة الفارق الزمني والسياقات المختلفة، يمكن القول بأن بزوغ فجر النهضة السعودية الحالية يتميز، في تقديري، بأربعة عوامل حاسمة ودافعة نحو مستقبلٍ واعد -بإذن الله تعالى- في فترة زمنية معقولة لهكذا نوع من التقدم والتأثير: 1) القيادة السياسية «الفعّالة» بدورها، كقوة دافعة، عجّلت من خطوات النهضة في مراحلها الأولية، الميزة التي كانت شبه غائبة في عالم السياسة ومفهوم القيادة في بدايات عصر النهضة الأوروبي وما قبله مما جعل عملية التقدم في تدرج بطيء. 2) ترتكز على «الثقة المجتمعية»، حيث يعي أبناء المجتمع السعودي احتياجاتهم المختلفة من تقدم وبناء (ديناميكية أو صيرورة تاريخية، سجلها التاريخ السعودي بفتراته الثلاث)، على عكس الوتيرة البطيئة التي سار عليها المجتمع الأوروبي لاكتشاف رغباته، والسبب في ذلك ربما يعود إلى «التصورات الضبابية» التي عاشها في عصوره الوسطى. 3) التهيئة التعليمية والثقافية المسبقة لهذا التطور. بمعنى، نسبة التعلم في المجتمع السعودي نسبة عالية جدًا ومصادر التعلم في النظام التعليمي أيضًا متنوعة وتحظى باهتمام خاص، فالابتعاث في أرقى الأنظمة التعليمية العالمية بتخصصاتها المختلفة يعد مثالاً بارزًا لهذه الميزة، كما أن دوره فعّال في تعزيز التنمية. هذه القيمة لم تكن لها شعبية واسعة في أوساط المجتمع الأوروبي في بدايات عصر نهضته، حيث كانت «ثقافة المعرفة» في مرحلة انتقالية تطورت مع مرور الوقت. 4) خلو التاريخ السعودي من الانقسام الطبقي، على عكس التاريخ الاجتماعي الأوروبي الذي سجل انقسامًا طبقيًا واضحًا له تأثيراته السلبية، المعضلة التي حدت من سرعة انتشار النهضة في بداياتها. وأخيرًا، هناك ميزة وجدت موقعها في التجربتين (الأوروبية والسعودية) وهي التوسع في البحث، والابتكار في المعرفة والبناء بعيدًا عن التقليد. في النهضة السعودية، يمكن مشاهدة جدية ذلك في مشاريع كبرى (فريدة من نوعها) في نيوم Neom، ذا لاين The Line، وأيضًا استحداث بنية تحتية عصرية لمشاريع أخرى مختلفة تشمل جميع المناطق السعودية. في حين أن المساهمات الكبيرة التي قدمها عصر النهضة الأوروبي لعبت دورًا حيويًا في تشكيل الحضارة الغربية المعاصرة، لا تزال النهضة السعودية في تطور وتحديث مستمر. ومع ذلك، وبحكم تعدد الأهداف الداخلية والخارجية لرؤية المملكة 2030 وتحقيق بعض مستهدفاتها حتى الآن، من الآمن القول بأن النهضة السعودية نهضة «شرق أوسطية» ذات تأثير إيجابي لكل بذرة تنموية هدفها البناء والتطوير. هذه الحجة مضاءة بالدور الكبير الذي تقوم به المملكة العربية السعودية في ترسيخ فكرة «السلام الإقليمي» من خلال دعم المحاولات الهادفة إلى الاستقرار بمفهوم «الدبلوماسية وقوتها الناعمة»، وكذلك مساهماتها في تفعيل التنمية المستدامة لمعالجة الأزمات التي تعاني منها بعض دول المنطقة من خلال مد جسور التعاون المتعددة. لقد أصبحت انطلاقة النهضة السعودية في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان، وولي عهده الأمير محمد بن سلمان «ظاهرة تاريخية ملهمة» و«ثورة تنموية شاملة»، في بيئة إقليمية غير مستقرة بسبب التراكمات المعقدة التي زادت من تفاقم مشاكلها؛ مما جعلها محط إعجاب الكثير من الشعوب العربية والمجتمعات العالمية. وفي هذا السياق، فقد تحدث ولي العهد محمد بن سلمان قائلاً: «إذا نجحنا في السنوات القادمة، سوف تلتحق فينا الدول أكثر. سوف تكون النهضة القادمة في العالم في ال(30) سنة القادمة في الشرق الأوسط إن شاء الله. هذه حرب السعوديين، وهذه حربي التي أخوضها شخصيًا، ولا أريد أن أفارق الحياة إلا وأرى الشرق الأوسط في مقدمة مصاف العالم». ولجدية المشروع السعودي العملاق بناءً على المستهدفات الضمنية والعلنية التي تم تحقيقها حتى الآن وكذلك وجود قيادة سياسية ملهمة يشاركها شعبها في طموحاتها وتنفيذ خططها؛ فقد وجّه ولي العهد الأمير محمد بن سلمان بكل ثقة، في المقابلة التي أجريت معه مؤخرًا عبر محطة «فوكس نيوز» الأمريكية، رسالة للعالم بأن: «السعودية أعظم قصة نجاح في القرن ال21».