لو سألت أي أحد ممن كانوا يوصفون برموز الحداثة إبان الثمانينيات عن معنى الحداثة الأدبية أو عن تعريف لها فلن تجد لديه جوابًا ذا قيمة معرفية، سواء كان ناقدًا أو شاعرًا أو ساردًا. وذلك لأن الحداثة ليست مجرد كلمة معجمية يمكن فتل أليافها بكلمات تعريفية مبسطة، بقدر ما هي منطقة جدل اصطلاحي يكشف عن وعي الشارح لها، ولذلك يتعذر على نسبة كبيرة من مثقفي تلك الموجة مقاربتها لأنهم لم يكلفوا أنفسهم عناء قراءة مقالة واحدة في معنى الحداثة، بقدر ما كانوا معنيين بفكرة الصراع ضد كل ما هو قديم تحت راية الحداثة. وهذا هو ما يفسر غياب أي أثر تنظيري تأسيسي لمعنى الحداثة في أدبيات ذلك الجيل، مقارنة بمنسوب الغبار الإعلامي للمعركة، على الرغم من كون الحداثة أحد أهم أركان الحضور الثقافي لذلك الجيل، فيما يبقى سؤال الحداثة معلقًا حتى هذه اللحظة على ردات فعل غير مستوفية لشروط ضبط المفهوم واستكناه دلالاته. والمفارقة أن الصراع الأيديولوجي كان على أشده آنذاك بين فريقين لم يتعرفا ولم يُعرفا المفهوم الدلالي للحداثة، لأن موضوع الحداثة يتموضع في مكمن متفجر يتعلق بالهوية، ممثلة باللغة والموروث الأدبي، والمقدس الديني والقيم الاجتماعية وهكذا. حيث استدرج تيار الحداثة أو ربما استمرأ فكرة تعريض جبهة التحديات الحداثية، بمعنى أن المفهوم المتداول في حقول معرفية متشعبة انتقل من الاستعمال الأدبي المعرفي إلى التوظيف الأيديولوجي. وفي تلك البؤرة الوعرة، أي منطقة استواء الأضداد على المستوى الأيديولوجي كان لزامًا على الطرفين التخندق والتحزب وإحياء ثقافة الحجاج بما يتجاوز الأدبي إلى الديني والاجتماعي. والاكتفاء بالتعريف العمومي الأبسط للحداثة المتمثل في اعتناق كل ما هو إبداعي وعقلاني ورفض كل ما هو اتباعي ونقلي. وهنا، أي في هذه التفصيلة الحرجة لمعنى الحداثة يكمن الخطأ الأكبر لمن عُرفوا بالحداثيين، حيث تعاملوا مع الحداثة كأداة، أو بمعنى أدق كأيديولوجيا. والحداثة ليست أيديولوجيا بقدر ما هي صيرورة. وهذا هو الركن الأهم للتماس مع الحداثة باعتبارها مفهومًا تاريخيًا. وعليه، فإن التيار الذي استأثر بحصرها في فئة وحقبة تاريخية إنما كان يهدر البعد التراكمي للحداثة. مع التأكيد على تسجيل نقطة لصالح تيار الثمانينيات الذي تبنى منظومة قيم فكرية وجمالية مستجدة خلال لحظة زمنية فارقة، ونذر نصه لتوطينها والدفاع عنها. بل كان معنيًا بأخلقة المشهد، ومع التنبيه على عدم النظر إلى تلك الفترة برومانسية تخل بالمقاربة التاريخية والمعرفية. هناك فرق ومسافة ما بين مفهوم الحداثة وحالة الوعي بالحداثة كما يؤكد على ذلك هابرماس في مقاربته للحداثة الغربية. وبتصوري أن الحداثة في السعودية كانت موجودة -مثلًا- عند من عُرفوا بالرواد، وفق ظرفهم الزماني والمكاني، إلا أن الوعي بالحداثة لم يُستظهر بالشكل الواعي إلا عند جيل الثمانينيات، وعند أسماء قليلة جدًا. بدليل أن المنتجات الشعرية والنقدية المتأخرة لبعض رموز حداثة الثمانينيات صارت تحمل سمة سلفية ولا تمت للحداثة بصلة. بل تساهم في تآكل سمعة الحداثيين الأدبية. وبذلك كانت سببًا جوهريًا من أسباب موت تيار الحداثة. وبتصوري أيضًا أن بعض أسماء الجيل التسعيني كانوا أكثر وعيًا بالحداثة وأكثر إسهامًا في تعميق المنحى الحداثي في المشهد، من دون معركة سجالية تنظيرية، بالنظر إلى معرفتهم الأكيدة بفكرة صيرورة الحداثة. كما أن الجيل الألفيني جاء بما هو أكثر بالنظر إلى الممكنات الموضوعية التي ساعدته على تعميق الحفر في مجرى النهر الحداثي. إبان الثمانينيات كان لقب الحداثي يمثل امتيازًا لمن يحمله. وقد ظل هذا الامتياز معلقًا على صدور بعض الأشخاص كنياشين انتصار في معركة كبرى. وهو وهم كبير ضخمه أولئك الذين فرغوا المفهوم من حمولاته الأدبية والمعرفية وأعادوا تعبئته بالمعاني الأيديولوجية النضالية البطولية، الذين لم يقتربوا من المفهوم الدلالي التاريخي للحداثة، لصالح التعريف المعجمي. ولم يدركوا بأن المعجم لا يمكنه أن يحتوي هذا المفهوم العصي على التعريف، لأن الحداثة أكبر من أن تكون لفظًا معجميًا أدائيًا، وهي أقوى من أن تستقر بسكونية في معجم، بالنظر إلى تمادي أبعادها الماهوية. وهذا هو ما يفسر الإجابات السطحية لبعض أولئك الذين نجوا من الشيطنة فأقاموا لأنفسهم تماثيل التألُّه عندما يواجهون بسؤال إعلامي أكثر تسطيحًا عن معنى الحداثة. وذلك من خلال مقاربات تقع على مسافة بعيدة من رؤية بودلير باعتبار الحداثة نقطة التقاطع بين الأبدي والعابر. إن المقاربة المعجمية أو الشخصانية لحداثة الثمانينيات تغلق كل ممرات الجدل حول الحداثة، مقارنة بالمقاربة السوسيوتاريخية التي تضع تلك الحقبة على طاولة الدرس في منطقة وسيطة لتصلها بما قبلها من حقب، وتستشرف ما بعدها من آفاق. فرحيق حقبة الثمانينيات موجود على هيئة نصوص أدبية ونقدية يمكن الاختلاف بها وعليها. والتغاضي عن كل الادعاءات التي صاحبت تلك اللحظة الزمنية من أفكار وأسماء ورموز. مع التأكيد على أن الثمانينيات ليست هي الغصن الذهبي لشجرة المشهد الثقافي في السعودية. وأن الثقافة في السعودية لم ولن تتوقف عند محطة الثمانينيات، لأن الثقافة التي تتخثر في حقبة زمنية تموت. وهذا ليس واقع الثقافة في السعودية ولا حال الحداثة، فهي وثيقة الصلة بالتحولات، وهذا ما يعد به المشهد الثقافي في السعودية الذي يعيش لحظة تحولات بنيوية عميقة تشكل الثقافة والحداثة على وجه الخصوص أحد أهم أركانها.