بين التجربة الشعرية في الثمانينات وتجربة جيل التسعينيات تبرز ملامح تمايز على مستوى البعد الفني.. فبينما اتجهت التجربة الثمانينية الى الاتكاء على المضمون نجد ان التجربة التسعينية تهجس بالهموم اليوميّة وتشكّل إناءً بحجم ما هو المُعاش وواقعيا. وفي ظل هذا التباين بين التجربتين كان لنا ان نطرح هذا السؤال الملتبس : ايهما كان اكثر شعرية.. والعمق كان لمن!! يتوغل محمد الحرز الى المنطقة المرتبكة التي أثارها سؤال "اليوم" أتساءل في البداية ما معنى أن نكون عميقيين؟ ثم كيف نجوز على أنفسنا كنقاد أن نستخدم صيغ التفضيل التي استشرت في الذهنية التحليلية بالصورة التي نجدها قد تحولت غاية تبريرية ترفع من شأن هذا العمل الإبداعي وتحط من الآخر , هذا إذا اعتبرنا أن التحليل أو التقييم يسلط الضوء على أفراد , إذن كيف يكون حكمنا إذا ما أردنا أن نتحدث عن جيلين مختلفين _ جيل الثمانينات والتسعينات_ أشعر أن السؤال يتجه إلى تعميق روح الألتباس التي تفرض على القارئ أن يتذوق الأعمال الإبداعية بإحساس جماعي ضاغط عليه من العمق بحيث تتحكم حتى في متعة الذائقة عنده . قال شليغل مرة ( كل قصيدة هي جنس أدبي قائم لذاته ) هنا تنتابني مفارقة تجتاحني من العمق بحيث تجعلني أتساءل : إذا كنا نحن مهمومين إلى هذه الدرجة بتقييم وتحليل الأعمال الإبداعية لجيلين مرا على الوطن , فهل نحن نتغافل في هذا الصدد مسألة في غاية الأهمية نفتقدها جميعا وهي ذهنية المؤرخ الأدبي والثقافي الذي على يديه يمكن أن نؤسس للوعي الأرشيفي التوثيقي والذي يجعل من الحقب التاريخية الأدبية والثقافية في متناول أي قضية تثار داخل المشهد . أعتقد جازما أننا لم نصل إلى هذه المسألة ,لأنها بالنتيجة تعتبر نوعا من التأصيل ونحن أغلب أشتغالاتنا النقدية لا تؤصل قدر اشتغالها على ترسخ نظرتها المسبقة عن الإبداع والفن وحتى في العمق عن الحياة . نحن ندور في حلقة مفرغة من الأحكام القيمية التي نصدرها على جميع الأعمال الإبداعية سواء كان منها هذا الجيل أو ذاك , وبكل بساطة المتجرد من نرجسته أقول لك أن الوعي الصحفي هو المسيطر على الوعي النقدي في مقاربة هذا النوع من القضايا . ما تطرحه في هذه المسألة يمس من العمق وعي المؤرخ النقدي المهموم بمثل هذه المسائل لكنها لا تتحول إلى قضية صحافية إلا إذا كان هناك ثمة فراغ معرفي يتحكم بصورة أو بأخرى في الوعي النقدي والثقافي بشكل عام عند نقادنا ومثقفينا. أنظر إلى القضايا التي تثار في الصحافة حتى تتأكد مما أقوله , لقد كرست هذه الحالة ما يمكن أن أطلق عليه ذهنية الوعي المقالي في التحليل والمقاربات الثقافية وبالتالي أصبح لكل سؤال يثار ثمة إجابة جاهزة دون عناء البحث وقلق المعرفة حتى غدا المثل المشهور ينطبق علينا بحذافيره ( أنت تفهم في كل شيء حتى في الكنافة). هذا تصوري الأولي حول المسألة ولا نريد أن ندخل في التفاصيل . وفي انحياز موارب لشعرية التسعينات يطرح الشاعر علي العمري إشكالية العمق .. ويرى ان البعد الأيديولوجي في تجربة الثمانينات سلب منها الشعرية الخالصة ليقول : لا يمكن إصدار حكم جازم يمنح الأفضلية المطلقة للتجربة الشعرية المكتوبة في التسعينات الميلادية على تلك المكتوبة قبلها فكيف لنا أن نتأمل مفهوم العمق الشعري الذي يشير إليه السؤال، وهل نعني بالعمق الشعري الاختلاف والتنوع في تجارب الشعراء، أم رحابة الفضاء الكتابي لدى كل شاعر، أم البعد المعرفي لكل تجربة ، أم التخفف من الهم الايديولوجي الضاغط لحساب الحياة ذاتها، ربما كانت السمة الأبرز للشعر المكتوب في الثمانينات هو غلبة الايديولوجي على الفني وخضوع المغامرة الشعرية لجملة من القوانين الفنية شبه الثابتة ، ويمكن لأي تجربة شعرية أن تحمل عمقها بقدر قدرتها على التحول وعدم الجمود وعلى تجديد أدواتها واكتشاف أساليب جديدة ، بالطبع لا يمكن إغفال ما كان للنقد الأدبي من دور سواء كان سلبيا ًأو إيجابيا في دعم وتقديم تلك التجربة بل وفي( تصنيم) بعض رموزها. وهذا ما يحتاج بالفعل إلى إعادة قراءة ونقد لمعرفة أي دور نقدي مارسه جيل من النقاد حيال تجربة الثمانينات على أنه ليس مطلوبا منه أن يعاود ممارسة ذات الدور الآن على القصيدة الجديدة المسكوت عنها تقريبا ًوالتي لازالت بمثابة النبت الشيطاني. أظن أن تجربة التسعينات الشعرية وما بعدها تحاول بدأب خالص وتجاهل تام أن تقترف الشعر بعيداً عن وصاية الآباء شعرياً ونقدياً على أن شرف المحاولة لا يكفي وحده لمنح هذه التجربة المتنوعة بين قصيدة النثر والتفعيلة حكماً قيميا إيجابيا ًيمنحها التفوق على قصيدة الثمانينات ما لم يتم الاشتغال النقدي من أجيال جديدة تعي حساسية اللحظة الشعرية التي يكتب فيها شعراء التسعينات لنتمكن من اكتشاف الكثير من التجارب المطمورة والبعيدة إعلاميا. المهم هو أن كل مقارنة أو مقارعة بين تجربة الثمانينات والتسعينات وغيرها تظل مجرد فرقعات إعلامية للاستهلاك فقط وإلا فكل فضاء ثقافي يحتاج إلى تجاوركل الأشكال وكل التجارب بعيداً عن وهم القمة والحضيض وبعيداً أيضاً عن مسألة التجييل التي ليست دقيقة دائماً . وبالكثير من الحياد تأتي إجابة الناقد والشاعر يحيى الأمير الذي إشكالية المنتج الأدبي ويمنح الظرف الأهمية البعد الأهم في هذه الرؤية ليقول: تجربة جيل الثمانينات كانت أكثر حضورا وتجربة الجيل السابق له كانت أكثر حضورا من اللاحق والشعر قبل مئات السنين كان أكثر حظا منه في هذه الفترة. الصورة برمتها مرتبطة ارتباطا وثيقا بمسألة ثقافية هي علاقة السابق باللاحق إذ غالبا ما يخضع السابق لرؤية نمطية أنه أفضل من الحاضر وأكثر عمقا ، وتنسحب هذه الرؤية كثيرا على المنجز الأدبي والإبداعي ليدخل في دائرة صراع المراحل. القضية بطبيعة الحال مرتبطة بالحالة القرائية والمعرفية في العالم العربي كله وبخاصة في الوطن العربي وما حدث من إحلال وسائل التواصل والمعرفة الحديثة تراجع المقروء أمام المرئي والمسموع وبالتالي .. يحدث تبعا لذلك اتصالا واضحا بين القراء والمهتمين بالمطروح أدبيا وثقافيا فالإشكالية في أصلها ليست فقط في ذات المنتج الأدبي وإنما في الظرف العام لكل فترة. جانب آخر يتمثل في أن كل جيل لديه من المؤثرات والعوامل الفاعلة ما يمنح منتجه تمايزا عن غيره أكان سابقا أم لاحقا ، المشكلة في الخطاب التنظيري والنقدي أنه يقع كثيرا تحت سيطرة الأزمنة والمقارنات فيتحول معها إلى مشجع غير منصف لمرحلة دون مرحلة على أن الطبيعي أن تتم قراءة كل جيل وفق المؤثرات والعوامل التي تسهم في توجيهه وتكوين رؤاه والتأثير في منطلقه الإبداعي ورؤيته الكتابية والأدبية. فيما يتعلق بالمشهد الشعري في الثمانينيات فإن النظر إلى الظرف الثقافي والقرائي والأدبي في حينها وظهور حركة الحداثة الشعرية بشعرائها ونقادها وحدوث حالة من المواجهة بين الصوت الأدبي التقليدي مدعوما بعد ذلك بالصوت الديني وبين تلك الأصوات التي أوجدت حراكا شعريا جديدا على الساحة المحلية وما حدث جراء ذلك من تصادم وتضاد فتح الباب للعامة ليكونوا جمهور هذا الحدث ، فتح الباب لانتشار وحضور وتعريف أكثر برموز تلك الحركة الشعرية ونقادها ، وعليه فإن الظرف الزماني والعوامل المتعددة هي التي جعلت تلك الحركة أكثر حيوية وحضورا أما إذا ما نظرنا لحالة الإبداع في تلك الفترة لمقارنتها بما سبق فلا أستطيع القول بأن تجربة شعراء الثمانينات كانت أكثر نضجا أو أن تجربة الجيل الجديد هي الأفضل ، كلا فالعوامل الخاصة بكل تجربة لا يمكن أن تدع مكانا لمثل هذا الحكم إلا تعصبا وإذا ما تخلصنا من تلك الرؤية العربية التقليدية التي تعطي الفضل للسابق على اللاحق إن تجربة الجيل الجديد ستكون ألصق بالقارئ وأكثر حيوية والتزاما بالتواصل الفعلي مع الروح الجديدة للحياة هذا إذا ا كان النص الذي يُكتب نصا حديثا حاضرا في حقيقة الحياة الجديدة بكل تفاصيلها وشروطها. وكان لا بد ان نأخذ صوتا شعريا محايدا من جيل ما بعد التسعينات وكان هذا الصوت يتمثل في رؤية الشاعر حمدان الحارثي الذي لا يؤمن بالتصادم بين التجربتين : التجربة الشعريّة في التسعينات لا يمكن من وجهة نظري فصلها عمّا سبقها في الثمانينات. ومن ثم فأن القول بأنّها أعمق من سابقتها فيه شيء من عدم الدقة بنظري. ما أقوله هو أن تجربة الثمانينات هي بمثابة إكساب التجربة الشعريّة السعودية الجديدة شيئا من المشروعيّة والبحث عن موضع شعر!! وقد حملت على أكتافها مشقة إنبات البذور الأولى وإن كنا متأخرين.. وتجربة التسعينات لا يختلف اثنان على أنّها أعمق. ورأيي أن لا تصادم بين التجربتين إذ الأخيرة هي استمرارية للأولى وليست منفصمة عنها بل هي تطوّر ونضج لم يُسلّط عليه الضوء كثيرا . فقد حظيت الأولى بزخم نقدي أكبر . والذي رفع بعض التجارب التي لم تكن تستحق. ولازلت أرى أن جيل التسعينات الشعري لم يأخذ حقّه من النقد والتوجيه. وسنرى أن الكثيرين قد يتفقون على تفوّق جيل التسعينات ولكنه يبقى رأيا انطباعيا لا يعوّل عليه كثيرا مالم يُبن على دراسات نقديّة قريبة من التجربة. وهو ما ينقص تلك الفترة ..إلا النزر اليسير من الدراسات النقديّة. والتي يصعب تكوين رأي علميّ على ضوئها فيبقى الأمر برأيي ضمن دائرة الحدس والانطباع والتخمين!!.