إذا قلت نعم: فكيف عرفت؟ عندما أقول لك لندن أعرق مدينة في العالم، ربما يوافق هذا الرأي هواك فتؤكد على كلامي، أما إذا كنت مؤرخاً فسوف تجادل في تعريف كلمة (أعرق). المؤرخ الواعي يملك المعرفة التاريخية التي تحميه من الانزلاق في العواطف والانحياز. بيد أن الإنسان العادي سيأخذ هذا المديح كما هو، وإذا سمعه من مصادر متعددة، نسميها (التواتر)، سوف يتبناه ويعده من الحقائق التي يدافع عنها. كل ما نعرفه عن كوريا الشمالية، أن رئيسها دكتاتور وشعبها بائس يعيش في سجن كبير. هذه المعرفة لم تصلنا من مصدر واحد. أستطيع القول باطمئنان، إنها متواترة، لأننا قرأناها في الصحف وقرأناها في السوشل ميديا وسمعناها في القنوات التلفزيونية وربما في المجالس المختلفة. في المقابل، لم نسمع كلمة طيبة واحدة عن الرئيس كيم، ولم نسمع أي شيء يسر عن الشعب الكوري الشمالي. نحن نعرف أن الحية الرقطاء تتمتع بشيء من الحسنات، بيد أن الرئيس كيم صفر حسنات. إذا كان الرئيس الكوري الشمالي بهذا السوء وكان شعبه بهذا البؤس كيف استطاعوا صناعة القنابل النووية والصواريخ العابرة للقارات؟ وكيف شيدوا ما نشاهده خلسة من مبانٍ وشوارع ومواصلات تنم عن وجود حياة طبيعية في البلد؟ لا نسأل مثل هذه الأسئلة فهذه المعلومات تتحاذف إلينا من جميع الجهات فتخضعنا لمنطقها ولا يوجد في كوريا الشمالية ما يجعلنا نزيد درجة الاهتمام ونبحث. اليوم تشغلنا الحرب الروسية الأوكرانية. تأتينا أخبارها من مصادر متعددة. من هذه الحرب سوف نعرف معنى كلمة (مصادر متعددة).. في اللحظة التي اندلعت في هذه الحرب قطع الغرب كل مصادر الأخبار الروسية، وأوقف محطاتها الإعلامية والمواقع الموالية لها في السوشل ميديا خصوصاً عن الشعوب الغربية. قرر صانع القرار في الغرب أن تكون المصادر المتعددة هي نفس المصادر المتعددة التي صنعت موقفنا من كوريا الشمالية ومن فنزويلا وغيرها. من حسن حظنا أن موقفنا من روسيا سابق على هذه الحرب ونملك قليلاً من الفجوات التي تسمح لنا بالتقاط الأخبار من المصادر الروسية نفسها. تقوم حياة الأمم على المصالح من جهة والمبادئ من جهة أخرى. عشنا فترات طويلة نرى هذا في علاقات الغرب بالعالم. في كل دولة غربية (كنداأمريكا إلخ) على سبيل المثال ثمة جهة تعنى بحقوق الإنسان في العالم بأسره. تراقب الحالة في الصين وفي السعودية وفي تركيا وفي روسيا وفي مصر وتصدر تقارير نصرة للمستضعفين، ولكن هذه المراقبة غابت عن قضايا أكثر خطورة على المستوى الإنساني والأخلاقي. أسقطوا من بياناتهم الإذلال الإسرائيلي المضروب على الفلسطينيين منذ سبعين سنة. نحن أقرب الناس للقضية الفلسطينية ومع ذلك ذهبنا معهم نراقب ونتحسر على حقوق الإنسان في إقليم الأيغور في الصين. كيف عرفنا الظلم الواقع على الأيغور. من مصادر متعددة أي بالتواتر. من الصحف، من السوشل ميديا، من القنوات التلفزيونية، من التصريحات العطوفة التي يدلي بها المسؤولون في الغرب. مجرد أن سمعنا أن الأيغور مسلمون ثارت حميتنا الدينية دون تدبر وتحرٍّ عن مصادر هذه الأخبار؛ لأنها كما تعودنا وصلتنا بالتواتر. ليس لنا أي قدرة كعرب على صنع موقف يقف مع مصالحنا أو مع الأخلاق الإنسانية. مواقفنا صنيعة الغرب.