عمي أحمد عمر الرفاعي -والد زوجتي رحمه الله- الذي رحل عن عالمنا بهدوء صباح يوم الخميس، كان إنساناً حقيقياً بكل ما تحمل هذه الكلمة من دلالات.. كان قلبه الأبيض الرقيق فندقاً عامراً بالناس، كما كان بيته ملاذاً لكل طفل يتيم أو فقير أو محتاج من أقاربه أو أقارب زوجته العظيمة العمة فاطمة رحمها الله.. في هذا البيت الشريف تولى الاثنان تربية باقة من الأطفال -مع أطفالهما الخمسة- بمحبة كاملة ورعاية نادرة حتى شبوا عن الطوق، وكانا لهم دليلاً إلى الطريق الصحيح والمستقبل المشرق.. كان عمي -على الرغم من تجاوزه التسعين عاماً- قارئاً حصيفاً مكرساً جل وقته للقراءة والبحث ومتابعة كل جديد، إذ يمتلك مكتبة كبيرة ملحقة بغرفة نومه عامرة بكتب في التاريخ والتراث والأديان والشريعة والسيرة النبوية والأدب والفنون والشعر والسرد، وهي أيضاً عامرة بمجلدات أنيقة من المجلات العريقة كالمنار والمنهل والعربي والآداب... إلخ عمي (رحمه الله) ضليع في الأنساب، وواع بالوقائع الكبرى في التاريخ وملم بالأحداث الجليلة في هذا العالم، وهو أيضاً حكاء من الطراز الرفيع، حين يتحدث تود ألا يسكت.. إنه رجل مؤثر جداً من دون ادعاء.. استطاع أن «يثقّف» زوجته العمة فاطمة التي لم تدخل مدرسة قط وأن يعلي من أفق وعيها، وانسحب هذا الجمال كله على سائر أفراد العائلة.. كان بعد مغرب كل يوم -فيما يتناولان التمر والقهوة معاً- يقرأ عليها الأخبار والمقالات المنشورة في صحيفة «عكاظ» تحديداً؛ لأنه كان يحرص على شرائها يومياً ومتابعتها بصفة دائمة حتى قبل رحيله بأيام، لهذا كانت تحدثني باقتدار تام عما كتب مشعل السديري أو هاشم عبده هاشم أو عبده خال أو حمود أبو طالب أو خالد السليمان أو سعيد السريحي أو علي الرباعي...إلخ، وكانت تعي ما تقول حين تتحدث في الشأن السياسي والاجتماعي والثقافي لأنها أيضاً كانت تتابع -كما يفعل عمي تماماً- الأخبار والبرامج السياسية والثقافية في القنوات المعنية بهموم عالمنا وقضاياه وكوارثه.. كان عمي -المثقف الرصين، القارئ المستنير، المتدين باعتدال يأسر الروح، المتحضر قولاً وسلوكاً- يحترم المرأة أيما احترام.. فهو صديق عائلته.. تجده دائماً في خدمة أهله، وفي صحبة زوجته وبناته في السوق والمطعم وأماكن النزهة ضاحكاً سعيداً كريماً.. يعاملهن برفق وحب ورقة ولطف، لم يقل لأي منهن «أف»، ولا يرد طلباً لإحداهن البتة، وإن كان ذلك الطلب في آخر الليل أو في ظروف حالكة السواد.. لم يكن يفرض عليهن شيئاً على الإطلاق، ولم يكن يمارس سطوة أو تسلطاً، مثلاً لم يكن يفرض عليهن تغطية الوجه أبداً على الرغم من كونه قد تجاوز التسعين عاماً، وعلى الرغم من كونه يصلي جميع الفروض في المسجد ويصوم الاثنين والخميس. أخيراً أقول: طويلة ومضيئة سيرة هذا الرجل الجليل الذي كانت دمعته قريبة، وكان قلبه حديقة عامرة بالمحبة والطيبة والجمال والورد.