منذ أن قالت لي أمي، رحمها الله وجعل جنات النعيم مثواها: «من يكذب يحكه أنفه، وكلما كذب ازدادت الحكة وتضخم الحجم»؛ ظللت أمعن النظر في «أنف» من يخبرني بشيء أو ينقل لي أمراً، أتوجس منه خيفة ثم أزيد في تمعني لذلك الأنف الذي أظل أتخيل امتداده وكبره، وقد يكون بريئاً مما في خاطري، ولكن حكه لأنفه يدخل الريبة اتجاهه.. كبرت وما زلت اتفحص أنوف من حولي، لكني وجدت أن «الكذب» لا يقتصر على مَن حك أنفه.. تهت بين نصيحة أمي، وما أقع فيه من أفخاخ نتيجة عدم حك الأنف وكبره. لعل والدتي لم تعلم أن هناك من يكذب أصبح يعرف قصة «حكة الأنف» فيحرص ألا يحكه كي لا يُفضح، فأصبح يحك عقله ويحاول الفرك بكل قوته ليخرج أمهر الأكاذيب التي لا مجال للشك فيها.. بل إن الأنوف تنحت فينا إلى أن تصبح كالمنقار، فأمست الأكاذيب تنخر فينا بمنقارها السام! في هذه الحالة؛ فإن كل ما أخبرتني به أمي أندثر، ولم أعد أميز الصدق من الكذب وسط هذا الكم الهائل من الأكاذيب، إذ أمسى أسلوب الكذب متطور المبررات والدوافع، ومتزيناً بأعذار هي أشد قبحاً منه. ما يفجر المرارة من البعض ويزيد الطين بله مقولة تبرير الكذب: «لا أكذب بل أتجمل»، أي جمال هذا في تشويه الحقائق وخداع الآخرين؟.. أي جمال في هدم صوامع الثقة المقدسة؟.. تلك الأكاذيب أصيب من أنقاضها قلة صادقة اندثروا لم نعد نجدهم.. لقد أصبح هناك تصنيف للكذب؛ كذبة بيضاء وسوداء، قصيرة وطويلة، وما يجعلني في امتعاض كبير وحسرة بالغة أنني عاجزة أن أسرد ما رأيت، وصادفت من هذه النوعية من البشر في تفننهم في أساليب تعاملاتهم بكذب متقن وبجراءة غريبة، فأصبح الكذب موضة يتسابقون في إضافة لمسات تميزه عن كذب غيرهم، ونالت موضة الكذب أصغر أمورنا؛ أعمالنا ومصالحنا وأسلوب حياتنا، وكأن الحياة لا تُبنى إلا بالكذب ولا تزين إلا إذا تجملت بتلك الأكاذيب.. أخيراً.. فيا حسرة علينا لم نعد نملك من كشفه شيئاً، فلا أنوف تُحك ولا يتضخم حجمها، ولا ضمائر تفيق وتغفل عن ما ينتج من آثار ذاك الكذب.