مهما ارتفع الضجيج السياسي في لبنان.. ومهما برع منظرو الطوائف والتيارات في تبرير وتأويل مواقفهم السياسية وجعلها أكثر منطقية تجاه المتغيرات، فكل ذلك لا قيمة له حين لا تذهب النتائج بعيداً عن سابق عهدها شكلاً ومضموناً.. فلا يطال التغيير على سبيل المثال جوهر المشكلة، ولا يضع آليات حل جديدة. ليبقى الحال على ما هو عليه إلى أن يشاء الله. إعادة انتخاب السيد نبيه بري (مواليد يناير 1938) رئيساً للبرلمان، مثال على أن الإيمان بقداسة القناعات والخيارات السياسية وحصانتها يفوق بأهميته النتائج وأثرها على البلاد والعباد. ليتضح بذلك عمق الأزمة على مستوى الطائفة أو الحزب حتى. فتعجز حركة أمل على سبيل المثال لا الحصر بكل كوادرها وقياداتها وأجيالها وأفكارها السياسية والطائفية، تعجز عن تقديم خيار جديد غير الرئيس بري ليتسلم قيادة البرلمان من باب تطوير الذات ومواكبة الاستحقاقات الزمنية والوظيفية لهذا المنصب. فلا تكون خيارات الإقطاع السياسي أكثر أهمية من استحقاقات العمل البرلماني ومواكبة وعثاء قيادته ومشاكله وتلبية متطلباته التي تحتاج إلى قدرات جسدية ونفسية وذهنية أقرب بعمرها إلى العصر منه إلى التاريخ. في فضاء سياسي كالفضاء اللبناني، كل ذلك لا قيمة له حتى وإن كانت نتائج الانتخابات الأخيرة مختلفة بعض الشيء عن سابق عهدها.. فالمصباح السحري القادر على تغيير ما يسود البلاد من أزمات لم يجده أحد بعد.. لأن الواقع السياسي يقول إن ما يخرج من الباب يعود من الشباك، لكنه يعود بثبات وبتكتيكات أكثر تعقيداً من السابق. فلا القوى السياسية المهيمنة بسلاحها وبتاريخها وبنظرياتها ولا مناصروها يؤمنون بمبدأ التغيير ولا أهميته. ويكفي لأي طرف أن يرفض أو يتعنت في موقفه أو خياراته ليصبح الطرف الآخر بالمقابل أكثر تعنتاً وإصراراً في فرض موقفه على الآخر بالسلاح أو بغير السلاح. وهذا ما يجعل النتائج تأتي متشنجة صلبة لا تعكس التغيير لا قولاً ولا فعلاً. بل وحتى إن كانت تلك الخيارات غير مناسبة للدور المناط بها بالمعنى التقني البحت. أزمة الديموقراطية وجمالها ربما أنها وسيلة لإعادة إنتاج وعي الشارع، بما ينعكس سلباً أو إيجاباً على الواقع الذي يعيشه أي بلد يذهب سكانه بين الفينة والأخرى إلى صناديق الاقتراع، بهدف اختيار من يمثلهم في تقرير مصيرهم. فالطائفي والقبلي والراديكالي والليبرالي واللاديني والاشتراكي والحزبي وغيرهم لن ينفصلوا عن خياراتهم ما لم يكن الوعي حاضراً ومؤثراً في فضاء القواسم المشتركة بين أبناء الوطن الواحد. فما إن ينتهي الفرز وتتضح الأسماء التي وقع عليها الاختيار، حتى تصبح قراءة أفكار الشارع وتوجهاته وسلوكياته واضحة وسهلة أمام المراقبين. وفي هذا الإطار فإن عودة الرئيس بري لقيادة البرلمان في دورته الجديدة بعد ثلاثين سنة من البقاء في ذات المنصب، دليل على عمق التشوهات السياسية التي يعاني منها لبنان، الذي طالما تغنى سياسيوه بالديموقراطية والحرية وإرادة التغيير. كل المؤشرات اللبنانية تدل على أن الفضاء السياسي لم يشف من داء الحرب ولغة المحاور بعد. بل ولن يشفى منها في القريب العاجل كما يعتقد البعض. ويخطئ من يعتقد أن ثمة فرقا كبيرا بين لبنان اليوم ولبنان الحرب الأهلية. اللهم إلا أن العوامل الإقليمية والأنظمة الثورية التي كانت تشجع كل فئة على رفع السلاح وخوض الحرب ضد أبناء الوطن الواحد، لم تعد موجودة أو لم تعد فاعلة كما كانت ما قبل الحرب الأهلية وخلالها. غير أن النوايا لم تغتسل بعد من خطيئة الدم والثأر، بل إنها أقرب للضغط على الزناد منها إلى إشعال شموع التفاؤل بالتغيير المأمول وتحقيقه.