إذا كانت الصحافة هي السلطة الرابعة بحكم مساحة تأثيرها وأهمية حضورها، فإن ثمة قائمة طويلة من المبدعين على بلاطها ساقوها إلى هذا الحيز من الأهمية والتأثير، وكان من بين أبرز فرسان المهنة ورموزها الكاتب الصحفي الساخر والمبدع علي خالد الغامدي الذي وافته المنية أمس الأول لعارض صحي ألم به. وأظنني على يقين أن هذا المبدع قد اختار لنفسه أن يعيش بمنأى عن عشق الكتابة الصحفية اليومية التي لم تعد تحتفي بالمبدعين الحقيقيين وتبحث عنهم حذو القذة بالقذة، وهو من كان في مقدمة الصف من حيث استحواذ المنشغلين بالمهنة بكتاباته الإبداعية الناقدة قبل تفضيل متابعة القراء لطبيعة كتاباته الصحفية الساخرة والتي تستدرك هموم الناس وتلامس احتياجاتهم وتتوقف عند محطات معاناتهم واحتوائها في قوالب وأنماط كتابية تباشر تفاصيل حياتهم اليومية كالمقال والتحقيق الصحفي. وعلي خالد الغامدي عملة نادرة في الزمن الذي نعيشه، فقد برع وبزغ نجمة في كوكبة صحافة الرواد من الجيل الثاني للصحافة السعودية الحديثة؛ التي شهدت عهد اندماج الصحافة ووصولاً إلى تأسيس كيانات صحفية مستقلة عرفت بصحافة المؤسسات بعد مرحلة صحافة الأفراد الأولى. والذي يدعوني للاستغراب والاندهاش أن هذا الصحفي المبدع، الذي قلما تجود الصحافة بملامح موهبته الإبداعية، لم يلق في سنوات عمره الأخيرة التقديم المطلوب لطبيعة قدرته وموهبته وسط هذا التزاحم الكثيف والهائل لمنصات الإعلام السريع وبرامج التواصل الاجتماعي، وهذا التفريط ليس في الحاجة إليه كصحفي مخضرم وإنما في طبيعة التعامل مع عطاءات المبدعين والمواهب الفذة في عوالم الكتابة الصحفية التي تقترب من حدود القارئ وتلقي بأثر كتابها على الملتقي ومن شأنها أن ترتقي بذائقته للمادة المكتوبة. فمعروف بأن الصحافة كمهنة تقوم في بنائها المهني ليس على ضخامة المباني وجودة تقنيات طباعتها وإنما على رصيد الخبرات الصحفية التي تحتفي بها، وهو مخزون ثري تتعاظم أهميته مع اكتساب التجارب الكتابية عاماً بعد عام في التدوين والرصد والتحليل للمواقف والمشكلات بشتى صنوفها طالما أنها تلامس هموم واحتياجات الناس. فكتاب النخب الصحفية لا تنتهي علاقاتهم بمهنة الصحافة عند بلوغهم سن التقاعد النظامي أو نتعامل معهم بنظام عقود الرياضيين المؤطر بتاريخ صلاحية نسبي يحتم عدم التجديد له عند تراجع مستواه أو إذا ما خارت قواه.. الصحفي الخبير في مضمار الصحافة يعد ثروة مهنية لا تقدر بثمن لطبيعة تناوله النقدي ومحاكاة المواقف والأحداث تحليلا ونقدا موضوعيا هادفا يتمثل في إبداء وجهات النظر والمعالجة النقدية للقضايا والأطروحات المستجدة التي يعرج للكتابة عنها.. وتلك التجارب الممتدة تخوله لتبوء دور المحلل المستبصر لتحولات وتغيرات تطرأ لمجتمعه وتؤهله أيضاً ليكون عنصراً فاعلاً بين جماعة التأثير المرجعية. وأمثال هؤلاء المبدعين ليسوا ممن تسيرهم أهواؤهم ولا مصالحهم، وإنما قد تجد القراء أكثر معرفة بالمعارك التي خاضوها وقد ألقت بهم خارج بلاط المهنة ثمنا بخساً لتمسكهم بقيم المهنة ومنطلقاتها الإنسانية، وكان منهم -بدون شك- الأستاذ علي خالد الغامدي الذي يكتب بلا دوافع شخصية ولا أهداف خاصة وبتجرد أكسبه احترام الجميع دون استثناء. ففي تاريخنا الصحفي تجد المسيرة لا تسلم من انتقال الصحفي من جريدة لأخرى ليس حباً ورغبة في مطامع الانتقال لمزايا وحوافز وظيفية وإنما ثمناً لجرأته ومهنية طرحه.. وتلك ليست مذمة في تاريخ الصحفي بل هي منقبة في كثير من الأحيان. ليس ذنب هذا الرمز الصحفي أنه لم يتم الاحتفاء به كما يجب في سنوات عمره الأخيرة، بل كانت الصحافة هي الخاسر الأكبر لترجله عن الكتابة ويعرف المنشغلين في المهنة أنه كان بحق موهبة من الصعب تكرارها وحالة فريدة لها ثقلها في براعة كتاباته الإبداعية.