في شراكة فريدة من نوعها مع أحد فرق السباقات العريقة في العالم، تساهم جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية (كاوست) بكامل خبراتها التقنية في إيصال فريق مكلارين لمنصة تتويج الفائزين في حلبة سباق الجائزة الكبرى ل«الفورمولا1». عندما احتلّ متسابقا مكلارين «دانيال ريكاردو» و«لاندو نوريس» المركزين الأول والثاني على التوالي في سباق الجائزة الكبرى الإيطالي للفورمولا1 في سبتمبر الماضي، كان فارق التوقيت بينهما قصيراً للغاية (1,747 ثانية)، ولو كان أداء أي منهما أبطأ ولو لبضع ثوانٍ في حلبة مونزا، التي تعتبر أسرع حلبة للفورمولا1، لسقطا من قمة المجموعة وأصبحا في منتصف قائمة المتسابقين، وهذا هو السبب الذي يدفع فرق الفورمولا1 لإنفاق عشرات الملايين من الدولارات سنوياً لعمل تعديلات على سياراتهم كإنسيابية الهواء، واحتراق الوقود، وتحسين القياسات الرقمية، كل ذلك سعياً في الفوز بأجزاء من الثانية في كل لفة ومنعطف من السباق. ولكن عندما تصطف الفرق العشرة غدا على حلبة كورنيش جدة للمشاركة في سباق جائزة السعودية الكبرى ل«الفورمولا 1» الافتتاحي، التي تعتبر أسرع حلبة شوارع لسباقات الفورمولا1 على الإطلاق، بمتوسط سرعة يقدر ب252 كيلومتراً في الساعة، سيكون فريق مكلارين الوحيد الذي يمتلك أفضلية الأرض. ففي عام 2018، وقّع فريق سباق مكلارين شراكة بحثية مدتها خمس سنوات مع جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية (كاوست)، بهدف تطوير سيارات سباق الفورمولا1 لمكلارين، تمكّن طلبة وباحثو وأعضاء هيئة التدريس في «كاوست» من تسخير خبراتهم في مجال البرمجيات وأجهزة الاستشعار والكيمياء، لمساعدة فريق سباق مكلارين على تجاوز منعطفات وممرات حلبة كورنيش جدة أسرع ببضع ثوانٍ من الفرق الأخرى. على الرغم من قوة محرك سيارات الفورمولا1، إلا أنه غير كافٍ للفوز بالسباق. وفي هذا السياق، يسأل الأستاذ المساعد في الرياضيات التطبيقية والعلوم الحاسوبية في «كاوست» البروفيسور ماتيو بارساني: «لماذا سيارة الفورمولا1 أسرع في حلبة السباق من دراجة السباق النارية، التي تستطيع أيضاً تحقيق سرعات تصل إلى 300 كيلومتر في الساعة؟ الإجابة هي انسيابية الهواء، التي تقلل من تأثير الهواء الذي يصطدم بالسيارة بحيث لا يؤثر على سرعتها ويمنحها الثبات اللازم، الذي يمّكن السائقين من تجاوز المنعطفات بسرعات عالية، وهذا مفيد جداً في حلبة كورنيش جدة التي تحتوي على 27 منعطفاً». عند اختبار انسيابية الهواء للسيارات، تقوم معظم فرق السباق باعتماد اختبار النفق الهوائي (wind-tunnel)، وهو اختبار مكلف ويستغرق وقتاً طويلاً. وفي الآونة الأخيرة، تبنت الفورمولا1 اختبار ديناميكيات السوائل الحسابية (CFD)، الذي يعتمد على الحوسبة الفائقة لمحاكاة وتحسين تدفق الهواء على الأسطح بشكل كبير، ولأن اللوائح الرياضية لسباقات الفورمولا1 تفرض قيوداً صارمة على عدد ساعات المعالجة المركزية المسموح باستخدامها بواسطة الفرق المتسابقة، يبحث جميع الفرق عن أفضل الخورزميات الحسابية، التي تحتاج للقليل من المعالجة، وتحقيقاً لهذه الغاية، رخّص البروفيسور بارساني وزملاؤه في مركز أبحاث الحوسبة الفائقة في كاوست، أحدث حلولهم البرمجية في مجال النمذجة الدقيقة لتدفق الهواء المضطرب وبصورة حصرية لشركة مكلارين. رحلة طموحة تُشكل أبحاث انسيابية الهواء جزءاً من أجندة الشراكة الطموحة بين «كاوست» ومكلارين، التي توسعت في نطاقها من تطوير أداء السيارات، إلى مساعدة ماكلارين على التزامها الممتد لعقد من الزمن «بمحايدة الكربون» ودعم التعليم في مجالات العلوم والتقنية والهندسة والرياضيات. ويقول مدير الأبحاث والابتكار في شركة ماكلارين ريسينغ مارك بارنيت: «تواصل كاوست عبر مرافقها البحثية العالمية، وأعضاء هيئة تدريسها، ورغبتها في الجمع بين التقنيات الناشئة ومبادرات الاستدامة في مساعدتنا خلال رحلتنا الطموحة». لكن السبب الرئيسي الذي جذب فريق سباق مكلارين لكاوست أول مرة كان أبحاث الوقود. فكما تنظم لجنة سباق الفورمولا 1 كمية التيرافلوب (وحدة معالجة حاسوبية) التي يسمح للفرق باستخدامها في محاكاة انسيابية الهواء، تخصص أيضاً 110 كيلوجرام من الوقود لكل سيارة كحد أقصى. وهذا يعني أن على الفرق المتنافسة أن تستغل كل قطرة من الوقود للحصول على الطاقة الحركية اللازمة للفوز، التي تتغير من سباق لآخر، وبحسب المسار والظروف. ويقول المدير المساعد لمركز أبحاث الاحتراق النظيف في «كاوست» ماني ساراثي: «نساعد مكلارين في تحديد معدل الاحتراق الأمثل للوقود من خلال تزويدهم بالتركيبات الكيميائية والأدوات اللازمة». وكما ساعدت مجموعة بارساني البحثية فريق مكلارين على استبدال اختبار النفق الهوائي، يستخدم فريق ساراثي تقنية تعليم الآلة لتحديد تركيبات الوقود اللازمة للاختبارات الميدانية. ويعتبر تطوير أجهزة الاستشعار من المجالات البحثية، التي يمكن أن تساهم فيها «كاوست» من خارج مختبر مكلارين، خصوصاً أن بطولة سباق الفورمولا1 تعتمد اعتمادا كلياً على قراءة البيانات والقياسات في الوقت الفعلي لتحسين الأداء. ويوجد في سيارات اليوم المئات من أجهزة الاستشعار، التي تنقل كميات ضخمة من البيانات المتعلقة بمعدل السرعة، وتدفق الهواء، ودرجة حرارة المحرك، وقوة الكوابح، وتصريف العادم وغيرها. وكلما تطورت أجهزة الاستشعار زاد وزنها، وبالتالي أثر ذلك على وزن السيارة وسرعتها القصوى، مما دفع الفرق للبحث عن أجهزة استشعار متطورة ومتناهية الصغر ومصنوعة من مواد خفيفة الوزن. وكجزء من هذه الشراكة، تم إيفاد مجموعة من طلبة «كاوست» لمشاهدة فريق سباق ماكلارين أثناء بطولة جائزة البحرين الكبرى للفورمولا1 عام 2019. وكان من بين الطلبة ألتيناي كايداروفا، وهي طالبة دكتوراه في الهندسة الكهربائية وهندسة الحاسب الآلي، حيث شاهدت من كثب مدى الضغوط الهائلة، التي يضعها سائقو مكلارين على سياراتهم، بما في ذلك التسارع الشديد ودرجات الحرارة الداخلية المرتفعة. وعند عودتها للجامعة شرعت تحت إشراف البروفيسور يورغن كوسيل، في تطوير أجهزة استشعار مخصصة باستخدام تقنيات التصنيع المتطورة في «كاوست». اختارت كايداروفا مادة الغرافين (وهي صفائح بسمك الذرة من الكربون النقي) أقوى وأخف وزنًا ب100 مرة من الفولاذ، وتمكنت من تصميم أجهزة استشعار مصنوعة بتقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد يمكنها قياس الإجهاد وتدفق الهواء والقصور الذاتي في البيئات القاسية التي تواجهها سيارة الفورمولا1، داخلياً وخارجياً، تقول: «هدفنا هو دمج أجهز استشعار لاسلكية مُحسّنة من الجرافين للحصول في وقت واحد على قياسات للقوة والضغط ودرجة الحرارة من نقاط متعددة حول السيارة». وتأمل مكلارين أن تتوج بالفوز في حلبة كورنيش جدة متسلحة بالتقنيات التي ساهم طلبة وباحثو «كاوست» في تطويرها. وكما يرى بارساني، فإن الفورمولا1 هي الاختبار الحقيقي لأي جامعة هندسية، إذ يقول: «تتيح بطولة الفورمولا1 للطلبة تجربة العمل في مشروع صناعي حقيقي وضمن بيئة حقيقية، وهي فرصة فريدة لمشاهدة أبحاثنا تتطور من رموز على الأوراق الى خوارزميات متطورة تتحكم في أحد أكثر الأجهزة التي صنعها الإنسان تعقيداً».