بدأت أحداث الحادي عشر من سبتمبر كما لو كانت مشهداً روائياً أو سينمائياً أبعد ما يكون عن الحقيقة: طائرتان ترتطمان ببرج التجارة العالمي وانفجار مدوٍ هائل ويظهر من بين ألسنة النار والغبار رجلٌ يقفز من أعلى البرج في محاولة يائسة ومستحيلة للنجاة. هذا المشهد الذي عُرف لاحقاً ب «الرجل الهاوي أو الساقط» كأحد أشهر اللقطات الفوتوغرافية ثم تحول إلى عنوان لواحدة من أجمل الروايات في أدب ما بعد الحادي عشر من سبتمبر للمؤلف الأمريكي (دون داليلو) الصادرة عام 2007. تدور أحداث الرواية حول كيث المحامي الأمريكي الذي ينجو من سقوط البرجين ولكنه يفشل في التصالح مع حياته السابقة التي يرى أنها لم تعد حياته، ثم يدخل في علاقة مفاجئة وغير مفهومة مع فلورانس التي نجت بدورها من الموت. وعلى الجانب الآخر تحاول ليانا رأب الصدع في شخصية زوجها الذي أصبح شخصاً آخر ولكنها تقرر في نهاية الأمر السفر مع ابنهما جاستين إلى لندن بعيداً عن أمريكا التي لم تعد مكاناً صالحاً لتربية طفل على حد تعبيرها. وكغيرها من الروايات المنشورة في الشمال العالمي تعرّضت رواية داليلو لبعض الانتقادات التي عابت على حبكتها التركيز على اضطراب ما بعد الصدمة لدى المجتمع المحلي وتغييب الآخر أو تنميطه. وفي هذا اليوم تأتي الذكرى العشرين لأحداث الحادي عشر من سبتمبر مختلفة هذه المرة لأنها تتزامن مع إنهاء ما أسماه جورج بوش الابن «الحرب على الإرهاب» بانسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان وعودة طالبان للسلطة. الحرب التي بدأت بسقوط الضحايا من أعلى برجي التجارة وانتهت بسقوط ضحايا آخرين من الطائرة الأمريكية التي غادرت كابول وبأشلائهم موزعة على أسطح الأبنية كشواهد حقيقية على فحش الحروب الأيديولوجية التي يذهب الأبرياء ضحيتها في كل زمان ومكان. ولا ينسى النقاد والمحللون الترويج الإعلامي الذي رافق ادعاءات إدارة بوش حينها بأن الحرب التي شُنّت على أفغانستان كانت «أيضاً معركة من أجل حقوق المرأة وكرامتها». وبهذا تم استخدام النساء الأفغانيات كرموز وبيادق في صراعات جيوسياسية لتنفيذ أجندة الحرب الأمريكية في أفغانستان تماماً كما تم استخدام أكذوبة أسلحة الدمار الشامل في الحرب على العراق. وفي هذا الصدد تحضر رائعة الروائي خالد الحسيني «ألف شمسِ مشرقة» 2003، التي يستشرف فيها المؤلف مستقبل أفغانستان والمرأة الأفغانية وسط عبثية الحرب والقتل والدمار حيث مريم «هذه الفتاة الصغيرة ستصبح امرأة، ولن تطلب إلا أموراً صغيرة من الحياة، أموراً لن تزعج الآخرين... امرأة كصخرة في قاع النهر، تتحمل دون شكوى، إذ لم تكن يوماً نكدة لكنها معجونة بالتمرد الذي يسكنها». وفي مفارقات القدر وجنون الحرب تلتقي بليلى التي تربّت في أسرة تؤمن باحترام المرأة وأبٍ يراهن على مستقبل أفغانستان الذي سيزهر على أيدي النساء حين يحين الوقت. تتقاطع حياة البطلتين في مشاهد درامية خارجة عن المألوف وتشهد المرأتان التطرف الديني والعنف الذكوري تحت وطأة السياسة القمعية، وفي الفصول الأخيرة من الرواية تظهر شمسٌ مشرقة في حياة ليلى وهي تستعيد حبها القديم وتستقر مع أبنائها بعد أن قضى الاحتلال الأمريكي على السلطة، لكن ليلى تدرك أن رجال الظلام يقبعون كلغمٍ خفي يمكن أن ينفجر في أي لحظة إذ «يمزقها أن لوردات الحرب قد سُمح لهم بالعودة إلى كابول. إن قتلة والديها أحياء يعيشون في بيوت أنيقة محاطة بالحدائق... إنهم يركبون سياراتهم المضادة للرصاص في الأحياء التي دمروها». وتصدق نبوءة ليلى لأنها كانت تدرك أن «إعادة الإعمار لن تدوم طويلاً، وأن هناك فساداً، وسينسى العالم مرة أخرى أمر أفغانستان». في قالبٍ سردي شيق تتماس رواية الحسيني مع الواقع السياسي المضطرب الذي مرت به أفغانستان على مدى أربعة عقود بدءاً بهزيمة الحزب الشيوعي، مروراً بالحروب الطائفية التي اشتعلت بعد انسحاب القوات السوفيتية ووصولاً إلى حكم طالبان الذي مهّد وبرر للحرب الأمريكية التي جعلت من البحث عن أسامة بن لادن ذريعة سياسية لتحقيق أجندتها المدروسة. ويأتي الأدب هنا لا ليكون في مواجهة حادة وشرسة مع السياسة لأن «الأدب ليس معنيّاً بالانغماس في السياسة بل بمناهضة السياسة» كما يقول الروائي والمخرج الأفغاني عتيق رحيمي. ورغم جدلية هذا القول -الذي يحاول تنحية السياسة ويضعها رغم ذلك مركزياً في سياق اللغة والمعنى- إلا أن الخروج بفكرة استقلالية الأدب عن السياسة هو خروجٌ لا يمكن تصوره لأن الرواية كغيرها من الفنون الإنسانية انعكاسٌ لبواطن الذات ومعالم الوجود ومعطيات الواقع والخيال. يسعى عتيق رحيمي في روايته القصيرة (حجر الصبر2008) إلى تقويض الأبراج الذكورية والأهرامات العقائدية المتطرفة التي حجبت صورة المرأة الأفغانية الحادة الذهن في بلدٍ مزقته الحروب. وبلغة فلسفية شاعرية يطرح رحيمي الأسئلة الوجودية التي تنبش في الميسوجينية وتبعاتها على صيرورة حياة المرأة الأفغانية من خلال بطلةٍ لا اسم لها في الرواية - لكي تمثّل كل نساء بلادها ربما- وفي أحداث تدور بالمجمل في حجرة واحدة بجانب نافذة صغيرة حيث يرقد في غيبوبة كاملة زوجها المجاهد الذي أصيب عرضاً برصاصة في رقبته وأحالته من بطل حرب إلى جثة يتربص بها ذباب المنزل: «كان والدك فخوراً بك حين كنت تقاتل من أجل الحرية وكان يحدثني بذلك. بعد التحرير فقط بدأ يكرهك أنت وأخوتك المقاتلين أيضاً عندما أصبحتم لا تقاتلون إلا من أجل السلطة... ما أصدق قول الحكماء: لا ينبغي أبداً الاعتماد على من عرف لذة السلاح». لعل من الصعب حصر الروايات التي كُتبت في ما يسمى أدب الحادي عشر من سبتمبر إلا أن نظرة سريعة للمنتج الروائي الذي حاول أن يتماشى -قصداً وعن غير قصد- مع الأحداث التي شكّلت معالم بداية القرن الواحد عشرين سيُظهر الدور الحيوي البارز للأدباء والروائيين على وجه الخصوص في مناهضة الحروب وتصوير الصراع الأزلي للإنسان في سبيل الحب والنصرة والنجاة.