من روح والدته الشاعرة استلهم الأهازيج فتربّت ذائقته على مناجاة البحر، فكتب (تهويدة لنجمته)، وعلى ملامح أبيه البحار قرأ (أنين الصواري)، ومن مهجة ارتوت بالعذوبة سقى (عطش النخيل). عرفناه عبر أرقى الأصوات الخليجية، أحمد الجميري، خالد الشيخ، مبارك نجم، جعفر حبيب، عندما أضفيتُ عليه بعض ما يستحق من الصفات، بحكم منجزه الشعري والثقافي، وعنايته بالمشاريع الثقافية الخلّاقة قال: أنا ابن بحار بسيط، مستور الحال واسمي الكامل هو: علي عبدالله خليفة يعقوب، فأرجو من لطفك الكريم الإحاطة بالعلم والاكتفاء بذلك للنشر لطفاً مع الشكر والتقدير. وهنا نص حوارنا معه: • أين أنت اليوم؟ •• موجود بدواخلي، تعصف بي هواجس فنية وتجارب شعورية أطمح في التعبير عنها بالفصحى والعامية، وموجود أيضاً بالعديد من المهام الوظيفية والتطوعية في مواقعي الحياتية المحلية والعربية والعالمية. • لماذا خفت وهج الثمانينيات والتسعينيات؟ •• لكل مرحلة حياتية وهجها الخاص، وما يخفت أو يتلاشى من هنا تراه يبزغ من هناك، فالحياة مليئة بالحيوية والتحدي لكل مجتهد، وما يبدو لك خافتاً الآن قد يكون كامناً.. يتفاعل ويختمر لينضج ويطلع. • هل استعاض المتلقي بفنون أخرى أغنته عن فن القول؟ •• المتلقي يضيف باستمرار جديداً إلى تلقيه، وكل جديد هو إغناء لما هو موجود، إن كان بالنسبة إلى المتلقي أو إلى مبدع القول، والفنون الجديدة والمستحدثة الأخرى فتحت أمام فن القول آفاقاً لم تكن لتخطر ببال المبدعين. وهذا مما لا يضير مبدعي فن القول، وإنما هو مكسب من مكاسب سنوات التحول و التطور. • ما القاسم المشترك بين الغواص صائد اللؤلؤ وبين الشاعر؟ •• كلاهما مجتهد ومغامر عنيد، لا يكف بحثاً عن الندرة والتفرد، ولا بأس من ركوب الصعاب المهلكة والتعامل مع مختلف الأخطار وشتى الاحتمالات مهما كانت، وعلى كامل الاستعداد للقبول بالخسارات. أما الفارق بين الاثنين حقيقة فكبير. فصائد اللؤلؤ مجرد عامل فقير ومستلب يغوص في قصد حياتي معيشي يبحث رهن بالغ المخاطر عن مصدر لرزقه ليعيش ويعيل من معه وهو في مواجهة محتملة مع الموت، أما الشاعر فهو مبدع قلق ومتوتر في بحثه عن التميز في إبداع لا يضاهى، طلبا للتفرّد ومن ثم الخلود، وهو في مواجهة نفسية محتملة مع الفشل، ومن ثمّ الإهمال والنسيان، وهو موت الوهج الإبداعي. • كيف ذوّبت تحسس الفصيح من العامي؟ •• لا أتذكر بأنني فعلت شيئاً محدداً من أجل ذلك، فقط تعايشت مع ما يختلج بداخلي من تجارب شعورية كانت تتخلق بعفوية لتكتب نفسها، ولم يكن لدي قصد مسبق لأن تكون القصيدة بالعامية أو بالفصحى. ولا أتذكر بأنني وقفت قط أمام تذويب أي تحسس يحتاج إلى تذويب. عندما بدأت أنشر أولى قصائدي بالعامية واجهت معارضة شديدة ونقداً لاذعاً مستهجناً في الوسط الثقافي البحريني ذلك الوقت، إذ كيف يكتب شاعر متمكن من اللغة الفصحى قصيدة بالعامية؟ ولماذا؟ في مقابل قبول شعبي واسع للنص باللهجة العامية البحرينية خلال الأمسيات الشعرية التي كانت حاشدة خلال سبعينيات القرن الماضي وخلال برنامج إذاعي كنت أعده وأقدمه لسنوات من إذاعة البحرين. وعندما انتعشت حركة الشعر العامي في الوسط الثقافي البحريني وبرزت مواهب شعرية جديدة في هذا المجال بعد ذلك، حاول بعض شعراء الفصحى المعارضين ركوب موجة كتابة الشعر بالعامية، إلا أنهم لم يوفقوا؛ ذلك لأن موهبة التعبير بالعامية موهبة إبداعية إلهية قائمة بذاتها قد يجمعها الله سبحانه وتعالى مع موهبة التعبير بالفصحى لمن يشاء، وإلا لأصبحت كل موهبة شعرية بالفصحى قادرة على إبداع النص بالعامية. ومن وجهة نظري فإن هناك عوامل موضوعية، ربما عديدة، تساعد في أن يجمع شاعر التمكن من الإبداع بالفصحى وبالعامية في آن. فبالنسبة لي كان التعاطي بالشعر العامي مكثف التداول في البيئة التي نشأت بها، وقد تشرّبتْ روحي واستقرت في باطن وجداني منذ الطفولة نصوص التهويد التي تغنيها الأمهات لأطفالهن كما تشبعت ذاكرتي بنصوص فن الموال العريق والأبوذيات الشعبية الرائجة بين الأهل في البيت إلى جانب أغاني وأهازيج صيادي اللؤلؤ في الحي من حولي، ثم جاء إصرار والدتي -رحمها الله- على أن أحفظ القرآن الكريم في الكتّاب، فإذا بي أمام المعاني الربانية أنهل من سيل الكلمات الفصيحة النورانية والتعابير الفنية الإلهية التي لا تضاهى، فسرني كثيراً حفظ سور كاملة عن ظهر قلب كسورة الرحمن وسورة مريم وغيرهما من السور القرآنية جليلة عميقة المعاني، فكان ذلك مدّخراً ثميناً ومؤثراً في تجربتي الشعرية بعد ذلك. • هل قصدت كتابة شعر للغِناء؟ •• كل النصوص الشعرية التي تم تلحينُها وأداؤها من قبل المغنين كانت في الأصل نصوصاً شعرية صدرت في دواويني المنشورة، ولم يكن ليخطر ببالي وأنا أكتبها بأنها ستلحن وتغنى. • ماذا يضيف اللحنُ والأداء للقصيدة؟ •• القصيدة منشورة في الديوان كالطائر الحبيس في القفص، لا بد من أن تأتي عانياً إلى القفص للتعامل مع هذا الطائر الجميل. أما اللحن الإبداعي الموفق والأداء المتقن المعبر فإنه يعطي للنص أجنحة ويفتح أمامه باب القفص ليطير وينطلق من قفصه إلى فضاء أرحب. ويجعل من النص كائناً حياً يتعايش مع محيط الاستماع الشعبي الواسع في فضاء الشوارع والساحات والأزقة والبيوت والسيارات ويدخل المقاهي والمجالس وغرف النوم، وهذا مكسب كبير لأي نص شعري يلحن ويغنى. • من أنجح فنان تعامل مع نصوصك الغنائية باحترافية عالية؟ •• ثلاثة ملحنين بحرينيين تعاملوا مع نصوصي الشعرية، هم الأساتذة: أحمد الجميري، وخالد الشيخ، ومبارك نجم، وهم من كبار الملحنين الذين أعتز بهم. ولكل واحد منهم أسلوبه المتميز في تلحين النصوص الشعرية الحديثة والمكتوبة على غير ما درجت عليه تقاليد نصوص الأغنية العربية من نظام الكوبليهات واللوازم. فالجميري كملحن ومؤدٍ تناوب والفنان عبدالله الرويشد أداء بعض النصوص الغنائية، والشيخ تولى تلحين وأداء النصوص التي لحنها، أما نجم فقد تولى التلحين وأدى النص الذي لحنه الفنان جعفر حبيب. لا يمكن أن أقارن أو أفاضل بين هؤلاء الفنانين فلكل منهم عالمه الخاص في التعامل مع الكلمة وله مدرسته وطريقته وأسلوبه، لكني وجدت ألحانهم وطرق أداء تلك الكلمات الملحنة ممتازا لقي قبولاً واسعاً من قبل الجمهور. فلكل فاكهة شكلها وألوانها وطعمها ورائحتها، وكذلك الزهور لكل منها رائحته ولونه وشكله المميز الذي لا يقارن بغيره. • في أي مرتبة تضع الشعر العربي اليوم بين أجناس الفنون؟ •• يظل الشعر عندي دائماً في المرتبة الأولى بين كل الفنون، مهما طغت عليه أجناس أخرى. صحيح أن الكلمة المكتوبة يتراجع دورها في هذا الزمان أمام فن الصورة المكتسح وأيضاً أمام فنون التقنيات المستحدثة التي تكتسح مختلف جوانب حياتنا إلا أن الإبداع يظل إبداعاً، إن كان بالكلمة أو بالوتر أو بالتشكيل أو بالرقص أو أي أداء إبداعي. يعتمد ذلك على ما يمتلكه المبدع من أصالة الموهبة ورحابة وغنى المخيلة ورهافة الأحاسيس وعلى درجة ما يمكن أن يستثار وجدانه ويؤثر في نبضات قلبه. وطالما وجد لدى الإنسان قلب إنساني حي نابض بشتى أنواع المشاعر والأحاسيس ولديه وجدان مرهف فلا خوف على الشعر من أن يحتل أي مرتبة. • لماذا لم تستهوِكَ الرواية؟ •• كتابة الرواية موهبة وفن عظيم ومتفرد له اشتراطاته وله أصوله الراقية وقوة جذبه المشوقة. شاغلي الشاغل هو الشعر، ولم أفكر قط في كتابة رواية أو حتى سيرة ذاتية، إذ لا يشغلني ذلك أبداً. وأرى أن الاستمرار في ترك النفس على هوى القلب يُجدي في تجويد ما بين اليد. • متى شعرت أن الفن الشعبي الخليجي في خطر؟ •• أستشعر هذا الخطر الداهم في كل يوم وحتى هذه الساعة، وعلى مدى سنوات من ولعي بجمع وتدوين نصوص الشعر الشعبي، وتفاعلي مع أنشطة المنظمة الدولية لحقوق الملكية الفكرية (WIPO) ومن خلال مشاركتي في التأسيس والعمل بالمنظمة الدولية للفن الشعبي (IOV) منذ العام 1979 وتولي رئاستها منذ العام 2016، وبها آلاف الأعضاء بدعم ومشاركة من 165 بلداً من بلدان العالم تحت مظلة اليونسكو، أعايش عن قرب كيف تُعنى شعوب العالم بفنونها الشعبية وكيف تدفع بأجيالها إلى الاقتراب والتشبث بأصول فنونها الشعبية، في حين تختلف دول الخليج العربية على كيفية تسيير مركز علمي متخصص، فيتم إغلاق مركز التراث الشعبي لدول الخليج العربية، ويتم تقاسم مدخراته من الأبحاث الميدانية فتهملها بعض الدول إلى أن تتلف. وأرى حياتنا العربية المعاصرة تنأى بنا وبأجيالنا القادمة بعيداً عن الجذور وعن أصول المكونات. ففقدان الهوية الوطنية خطر يتهدد المصير ويجعل من الأمة مسخاً لا ينتمي إلى أي وجود ولا إلى أي حضارة، فيتم التهاون والتنازل بيسر وبدون وعي عن المكونات الأساس للهوية، مما يسهل الاختراق وتكرار الهزائم. • كيف نرد على من يرى التنصل عن الموروث حداثة؟ •• حدث العاقل بما لا يليق فإن صدّق فلا عقل له. • لمن تقرأ اليوم من شعراء الخليج؟ وهل من شاعر أثير؟ •• أتابع أنشطة الحركة الشعرية العربية باهتمام بالغ، خاصة الحركة الشعرية في الخليج العربي، وهناك جيل جديد واعد من الشاعرات والشعراء المجيدين في إبداع النصوص الشعرية بالفصحى والعامية في كل بلد من بلدان الخليج العربي، ولي صلة تواصل مع بعض من هذا الجيل المأمول، الذي أتمنى له أن يرقى بهذا الفن وأن ينحو نحو تجديده وإغنائه. وأتابع بشغف إبداع جيل الشعراء اليمنيين الشباب فمن بينهم مواهب شعرية سيكون لها شأن كبير يوماً ما. • هل انتهى زمن الشعر المسرحي؟ •• الفنون لا تموت ولا تنتهي بهذه السهولة، وإنما ينتابها الضعف أو الركود من بعد انتعاش. فالمسرح العربي بوقتنا الحاضر في ركود له عدة أسباب، فهناك تراجع كبير في النشاط المسرحي بمختلف الدول العربية التي عنيت بالمسرح. هناك جيل أسس لحركة مسرحية ناشطة ظلت تعطي وتعطي فكان المسرح وقتها في انتعاش، وهناك أجيال لاحقة من المسرحيين منهم من كبُر وأحبط فقل نشاطه في ظل طغيان السينما ومسلسلات التلفزيون. ووجود أجهزة العرض بالمنزل لم يبق من المسرح إلا المتشبثين من محبي المسرح، فكيف يا ترى بالشعر المسرحي في ظل عدم وجود نشاط مسرحي. • بماذا تصف النقد الشعري اليوم؟ •• قليل من نقاد الشعر يتواجد على الساحة العربية، وهناك شح نقدي عربي عام يعنى بتناول الأعمال الأدبية بصفة عامة، ومنها النتاج الشعري العربي الحديث. هناك تناول نقدي لنتاج مناطقي يتم فيه التركيز على شعراء العواصم العربية الكبرى مع إهمال ربما متعمد لشعراء البلدان الواقعة عند أطراف الوطن العربي، فقد جنى علينا النفط في الخليج، فالنقاد ينظرون إلى المعاناة في تجاربنا الشعرية على أنها مجرد ترف كتابي مفتعل. هذا إلى جانب ما تعانيه الثقافة العربية في منعطف الأزمة الحضارية للأمة وما تعيشه من ركود فكري وتذبذب وضعف سياسي ينسحب على مختلف القطاعات والمجالات الأخرى. • هل من محاذير وحساسيات يتجنبها شاعرنا تؤثر على قوة النص؟ •• الثالوث الشهير المتجنب مسه: الدين، السياسة، الجنس. أما النص الشعري فهو ملك للتجربة الشعورية الأصيلة للشاعر المُجيد، أما المحاذير فتتعلق فقط بالنشر وليست لها علاقة بالتأثير على قوة النص. فالشاعر عند إبداع القصيدة يكون رهن مشاغل التعبير عن التجربة الشعورية الانفعالية. • ماذا عن الرمز الشعري في نصوصك، في ظل هيمنة «التابو» الاجتماعي؟ •• أترك التجربة الشعورية تأخذ حقها من التداعي للتعبير الحر المرسل دون توقف أو تدخل في أية تفاصيل، وهو وقت الانثيال العفوي المهم للصور الفنية والتعابير والأخيلة الإبداعية المبتكرة التي تؤسس روح المعنى لخلق نص شعري إبداعي ومبتكر. إن أي تدخلات واعية لأي محاذير تأتي لاحقاً، حين مراجعة النص لغةً ووزناً في كتابته الثالثة أو الرابعة وربما الكتابة الخامسة. أما الرمز فهو أساس في النص حين اللجوء إليه، ومن المهم أن يكون هذا الرمز ذا أبعاد فنية وفكرية وتاريخية غنية بالدلالات ليؤدي البعد المقصود، وقد يصلح لأن يكون غطاءً ذكياً للمعنى أو لمجموع المعاني التي قصدها الشاعر. ولقد استخدمت العديد من الرموز التاريخية والموجودات الحياتية التي تزخر بالمعاني والأبعاد. • هل كسر «التابو» شجاعة الكاتب؟ •• ما زال الكاتب يتوسل بذكاء مختلف الوسائل والطرائق الفنية رفيعة المستوى في الأغلب الأعم للتغطية بالرمز والإشارة لكسر الممنوع وتقديم احتمالات عدة للمعنى قد تكون منجاة له من المساءلة في ظل التضييق على حرية التعبير. ولم يكن لهذا «التابو» في أغلب الحالات أي عائق أمام بعض الكتاب فكثير من الكتاب كان في معاناة حياتية شديدة نتيجة معاني ما يكتبه. • ما دور الأمانة العامة لمجلس التعاون في تجسير المسافات بين الثقافة والفنون الخليجية؟ •• جهودها حثيثة وطيبة، إلا أن إدارات الثقافة في الدول الخليجية محطات نائية عن بعضها والكل منها يعمل في نطاقه المحلي حسب أجندات تقتضيها مصالح وطنية، وتحتاج هذه الإدارات إلى صلاحيات أوسع للتفاعل مع حقيقة هذا التجسير المرتقب.