يمكن القول إن سؤال الذاكرة يمثّل أحد الاسئلة المركزية في السرد. ذلك لأن السرد يعتمد على الذاكرة اعتماداً كبيراً، في عملية استعادة المحكيات، وبنائها من جديد. وحين ننظر للعمل السردي بوصفه عملاً أدبياً تخييلياً، تصبح الذاكرة أداة بنيوية مهمة في السرد؛ فتسهم في بناء الأحداث، وتحديد وظائف الشخصيات، وتتحكم في تطور السرد، كما تسهم كذلك في تبئير الحكي. وتتجه بعض الروايات إلى معالجة موضوع الذاكرة، وتحويلها لبعد موضوعي يتجه نحوه السرد؛ يحاوره ويسائله، ويوظفه عنصراً بنائياً داخلياً. ورواية (الاعترافات) لربيع جابر مثال جيد في هذا السياق. لطالما مثّل الصراع الداخلي في لبنان موضوعاً خصباً للأدب، أشعر أن كلمة (صراع) لا تخلو من تلطيف مخل، فالوضع في لبنان منذ سبعينيات القرن العشرين وحتى اليوم حرب شنيعة وشرسة بين فصائل متناحرة. (قُتل في هذا الصراع قرابة مئة وخمسين ألفاً، وهُجّر الملايين). وقد نقلتِ الرواية -على وجه التحديد- صوراً من فظائع هذا التناحر اللا-إنساني بين الإخوة في هذا البلد الصغر الجميل. وربيع جابر، الروائي اللبناني الأشهر ربما، أحد أهم الكُتاب العرب الذين وضعوا حروب لبنان الأهلية تحت مجهر السرد، فأصدر عدداً من الأعمال التي سلطت الضوء على مآسٍ لا تخطر -ربما- على بال بشر، ولا يتصور إنسان أن مثلها يمكن أن يحدث في بلد متحضّر مثل لبنان. نجد تفاصيل كثيرة عن المعارك في الحرب الأهلية، وعن أثرها على المجتمع اللبناني في أعمال مختلفة من أعمال ربيع جابر، حيث يصوّر مشاهد كثيرة ومتنوعة من حياة اللبنانيين إبان الحرب في روايات من مثل (شاي أسود، وبيروت: مدينة العالم، وطيور الهوليدي إن، وسيّد العتمة، والمبرومة، والاعترافات...). ظل جابر مسكوناً بالبحث عن الإنسان في خضم فوضى لبنان، منذ ارتبط ظهوره في العالم باحتدام الصراع واشتعال الحرب الأهلية. (ولد عام 1972م، وقضى سني حياته الأولى في الجبل، بعيداً عن الحرب المحتدمة في بيروت). وظهرت رواية (الاعترافات) أول مرة في العام 2008، وعلى الرغم من حجمها الصغير إلا أنها تمثّل عملاً مهماً، على المستويين الأدبي والتوثيقي؛ تحكي الرواية قصة حرب السنتين 1975م اعتماداً على ذاكرة بطلها، وساردها الرئيس (مارون)، الطفلِ الذي يحكي قصة حياته مع عائلته إبان الحرب الأهلية على مدار خمسة عشر عاماً. يسرد مارون تفاصيل كثيرة عن أبيه، وأمه، وإخوته، وأخيه الصغير الذي يحبه الجميع، ولم يقابله هو أبداً. وتضم الرواية عدداً كبيراً من القصص التي تدور أحداثها في شوارع بيروت، وهي في غالبها قصص القتال والثأر بين معسكريْ الشرقية والغربية في بيروت، لكنّ الرواية تنجح بامتياز في صبغ طابع شخصي للأحداث، يجعلها قريبة من ذاكرة ساردها وبطلها الرئيس. ولعل ذلك يظهر جلياً من سطرها الأول الصادم والذكي. تبدأ الرواية هكذا: «أبي كان يخطف الناس ويقتلهم. أخي يقول إنه رأى أبي يتحول في الحرب من شخص يعرفه إلى شخص لا يعرفه». الجميل والبارز في معظم روايات ربيع جابر، هو ذلك الحياد المزيّف الذي يظهره السرد تجاه الوحشية والدموية التي تعج بها أحداث الحرب، ولا تمثّل (الاعترافات) استثناءً في هذا السياق، بل إن جابر يفتتح العمل بعبارة «تحرزية» ذات دلالة، عبارةٍ يمكن وصمها بأي شيء.. إلا الحياد. يقول: «هذه الرواية من نسج الخيال، وأي شبه بين أشخاصها وأحداثها وأماكنها مع أشخاص حقيقيين وأحداث وأماكن حقيقية هو محض مصادفة، ومن الغرائب، ومجرد عن أي قصد». تنطلق رواية (الاعترافات) من السؤال الرئيس: كيف تعمل الذاكرة؟ إن الذاكرة كما يؤكد الناقد لؤي عباس «تواصل فاعليتها وهي تؤسس انتباهات الخطاب الروائي بناء على قوانينها، وهي تعمل على نحو ضدي.... إنها الذاكرة التي تخلخل حتى ما نضنه عن أنفسنا». ورواية (الاعترافات) تقوم على ذاكرة بطلها الرئيس وساردها، مارون، الذي يحاول -عبثاً- استعادة ذكرياته في بيت أهله، أيام حرب السنتين. لكن هذه الذاكرة ليست موثوقة، بل تظهر مشوّشة، مليئة بالثقوب والجروح، وتعمها الفوضى. وهذا هو الفخ السردي الذي تنصبه الرواية لقارئها، إذ يظل القارئ في حالة من الضبابية، وهو يقرأ بين مصدّقٍ ومكذّب، لا يدرك مدى دقة ما يقرأ، أو إمكانية ما يحدث من فظائعَ لا يستوعبها الإدراك البشري. يتابع القارئ قصة هذا الصغير الذي يحكي قصته بنفَس روتيني، وشيء من العادية، يخلط فيها بين المعقول واللامعقول؛ حيث تجاورُ عبارةٌ من مثل (أبي كان يخطف الناس ويقتلهم) عبارةً أخرى تقول: (هذا أخي الكبير، أخي الصغير لم أعرفه، أعرف صورته...). يتنقّل القارئ مع السرد بين أفراد العائلة، ليتتبع الحلقة السردية، حتى يقع في شرك المفارقة الغريبة لاحقاً، حيث يظل لغز الأخ الصغير مفتوحاً، لا تغلقه غير صدمة الكشف، حين يعلن السارد (مارون) عن هويته، وعن ظروف انضمامه للعائلة، وعن مآل أخيه الأصغر الذي لم يقابله، ولم يره إلا في الصور. لعل أهم النتائج التي يمكن للورقة الإشارة إليها أن الذاكرة -في رواية (الاعترافات) تلعب دور البطولة؛ فهي كما ظهر من التحليل السريع مدارُ السرد ومحوره، وكل شيء تقريباً متمحور حول ذاكرة الطفل مارون؛ توحي الصفحات الأولى أن مأزقه في أنه لا يتذكر جيداً، لكن العمل يكشف بعد ذلك أن مأزقه في أن يتذكر. هنا تصبح الذاكرة فردوسه اليباب، وآخرته، والعقاب. هذه النتيجة تأتي متسقة مع خطاب الرواية، مع نوع الراوي المشارك وزاوية رؤيته للأحداث، ومع وظائف الشخصيات، ومع استراتيجية تهشيم الزمن التي اعتمدتها الرواية هل يمكن للذاكرة أن تنسى فظاعة مثل فظاعة الحرب، وهل يمكن لها -إن لم تتمكن من النسيان- أن تتذكرها فعلاً؟! أن تعيد بناءها في الذاكرة؟ هل تقوى أي ذاكرة بشرية على إعادة كل ذلك الموت.. للحياة؟