استبشرنا خيرا بإعلان مجلس التنافسية عن البدء في تحقيق موسع لرصد تأثير هيمنة شركات التأمين على سوق التأمين وسوق الخدمات الصحية. هذا التحقيق وإن كان الأول من نوعه فلن يكون الأخير، وقد تهتم بالقضية جهات أخرى لاحقاً. فتنمية الاقتصاد تعتمد على وجود أسواق حرة وتنافسية، وبالتالي فإن هذا التحقيق وغيره سوف يكتشف أن أهداف 2030 في الصحة والتأمين ستتعثر طالما هناك ممارسات سلبية. وتعتمد أنظمة التنافسية على مفاهيم رئيسية تحتاج إلى تكييف قانوني في كيفية تفسيرها وإسقاطها على الواقع في صناعات التأمين والخدمات الصحية. ومن هذه المفاهيم: أن يتم بشكل علمي الرصد والاعتراف بوجود هيمنة (عدد محدود من اللاعبين في صناعة ما) ويتم رصد وتحديد الممارسات الخاطئة بشكل تفصيلي. وهنا نتخطى قضية الإنكار أو التقليل من حجم الظاهرة حتى لا يلتفت المسؤول إلى تبعات الهيمنة السلبية. والمعايير العالمية تقول إذا كانت هناك فقط 5 شركات تستحوذ على 60٪ من السوق فهناك هيمنة، فما بال إذا كانت هناك شركتا تأمين فقط تستحوذان على أكثر من 70٪؟ إذن هناك هيمنة شديدة في سوق التأمين وهو واقع لا إنكار فيه ولا جدال. والمفهوم الثاني: دور الجهات المسؤولة أن لا تؤدي الهيمنة (إن وجدت) إلى منع دخول لاعبين جدد أو توسع لاعبين حاليين في السوق بسبب خسف المشترين المهيمنين لأسعار الخدمات. وهنا لا بد أن نعترف بأن أسعار الخدمات الصحية في السعودية هي من أقل الأسعار في دول الخليج العربي ومن أكثر أسباب عدم نمو القطاع منذ 5 سنوات إلى الآن. وأيضا يمكننا ببساطة رصد تعنت الشركات المهيمنة على إعطاء مقدمي الخدمة أسعاراً عادلة، بل بالعكس تقوم في أسوأ الظروف بالضغط عليهم للحصول علي خصومات أكثر. (ما عدا كبار المستشفيات التي لديها عملاء إستراتيجيون لأن شركات التأمين تخافهم). أما التعاقدات الجديدة مع الشركات المهيمنة فهذا أقرب للحصول على صكوك الغفران بل صعبة المنال وإن حدث فبعد تقبيل الأيدي ومسح الجوخ. وهنا أيضا مخالفة واضحة لمبادئ السوق الحر. أما الشبكات وما أدراك ما الشبكات، فإن وصلت وظفرت بالتعاقد وحصلت على أسعار مقبولة وعادلة، فلن يأتيك المرضى أيضاً، لأن صكوك الغفران لم تحتو على أي شبكة تغطية (عدد وحجم المرضى يقيم بالشبكات) من حق مقدم الخدمة التعامل معها. وإن ظننت أنك وصلت وظفرت، فقد خبت وانهزمت. فشركة التأمين لا تزال تستطيع أن تضعك في شبكة ليس بها مرضى وتعود خالي الوفاض. وقد قدمت القرابين هباءً منثوراً. المفهوم الثالث: أن لا تعيق الهيمنة دخول منافسين جدد لمنافسة الشركة المهيمنة. ولسان الحال ينطق بأن الشركات الصغيرة حتى بعد الاندماج المفروض لن تستطيع المنافسة ولو بعد حين. فالشركات المهيمنة بضغطها على مقدمي الخدمة واغتصابها لأسعار غير عادلة لن تحصل عليها أي شركة جديدة وبالتالي لن يستطيع أي منافس تحقيق تكلفة شديدة الانخفاض. نعود إلى موضوع الشبكات، فتعتيم شركات التأمين المهيمنة على نسب خسائر الوثائق الحقيقية يمنع العميل من معرفة حقيقة تكلفته حتى يحصل على سعر أفضل. ويمنع شركات التأمين المنافسة من إعطاء أسعار منافسة، لعدم وضوح البيانات وانعدام الشفافية. لن تدخل شركات تأمين جديدة معتمدة على آليات السوق، ولن يتم علاج سرطان الهيمنة إلا بتدخل الجهات المسؤولة وكبح جماح تلك الهيمنة. وكل ما سبق هو مخالفة صريحة لمفاهيم وممارسات أي سوق حر أو اقتصاد نام.. التحقيق الجاري خطوة مهمة وتحرك غير مسبوق، إن استطاع أن يضع يده على العلة وعلاجها فنعم به. وإن لم يستطع فلن يكون هذا آخر تحقيق.