لا تبرح أصوات المذيعين الآباء، تسكن أسماع وأفئدة أجيال تربّت ذائقتها على صوت الأثير، وبقدر ما برزت منظومة إعلامية واقتحمت الوعي بعذوبة الصوت وسلامة مخارج الحروف، بقدر ما حافظ كل منهم على رونقه الخاص ونبرته غير المتكلفة. ولن تغيب صورة الراحل عبدالرحمن محمود يغمور عن ذاكرة الشاشة الفضية، ولن يخفت صوته الباعث على الشجن في نفوس مستمعيه، ولن تتنكر مناسبات ملايين العرب والمسلمين لإطلالة الإعلامي المخضرم المبشّر بثبوت الأهلّة وقدوم الأعياد، والمُرتّل الأدعية المجنّحة بحسن الظن نحو السماء، ولن يعيق الفضاء أحد أقماره المُطل على مستمعيه ومشاهديه برزانة واقتدار ليتلو بيانات ومراسيم وقرارات الدولة ذات العلاقة بأمن ورفاهية المواطن. يغمور الذي وافته المنية في التاسع من فبراير الماضي تشكّل وعيه المبكّر في أحضان أسرة ذات علاقة بالإعلام، وأسهمت في بناء ثقافته وشخصيته المضيئة، فكان أحد مشاعل التنوير عبر مراحل ومن خلال برامج إذاعية وتلفزيونية زاخرة بكل جديد، ومعززة لهوية الانتماء للدين والوطن. ولم يغفل الإعلامي المخضرم دور الدراما في إثراء وتنمية مهارات ومعلومات المجتمع، فاتجه لتأسيس لبنات مشروعه الأوسع لتعزيز حضور المتعة والتربية والتفاعل بالفن المرئي إلا أن الإمكانات المتواضعة زهّدته في الاستمرار، فتفرغ للعمل التلفزيوني بدءًا من عام 1963، إذ عمل مخرجا ثم مذيعا ثم مساعدا لمدير عام البرامج في التلفزيون ليصبح لاحقا مديرا عاما له إثر انتقاله إلى الرياض. يعد يغمور من جيل الرواد المؤسسين في الإعلام بحكم فرادة مواهب جمعت بين خامة الصوت وسعة الثقافة، وإتقان الإعراب، ما صان اللسان من النشاز وحمى المفردات من اللحن، وألبس الإلقاء عذوبة تأسر سامعيه ومشاهديه. ولم يكل «المايك» منه، ولم يمله، لما بينهما من عشق متبادل ومشاعر متناغمة، فظل وفيا لمتلقيه طيلة 40 عاماً، يذيع النشرات ويقدم البرامج ولا يبخل على محبيه ومريديه بالاستشارات والنصيحة، وإفادة مذيعين ومذيعات من تجربة ثرية ونبع عطاء لا ينضب حتى اختار عام 2008 أن يرضى من الغنيمة بالإياب، ويحط عصا الترحال، ويحتجب إلى الظل بينما بقيت صورته الضوء لعتمة الذاكرة. ولد الراحل في جدة عام 1358ه، وبدأ العمل الإذاعي عام 1383ه، وانتدب إلى هيئة الإذاعة البريطانية BBC عام 1387ه، وشارك في تقديم برامج عدة، وفي عام 1396ه، اُبتعث إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية لدراسة البكالوريوس والماجستير وعاد عام 1401، ليتدرج في مناصب العمل الإعلامي، وينقش في وجدان تلاميذه ومريده بصماته مع كل يوم جديد بأعبق ما يُبدأُ به (بك نستعين).