عندما يتسيس الناس ويتحولون إلى طلاب سياسة لا تسل عن تفشي حالة السخط والتذمر بينهم والإحساس بالإحباط مهما كانت الحال، يرافق ذلك شعور مستمر بالظلم وعدم الرضا مع جحود صارخ للنعم: فلا يشكرون نعمة ولا يرضون بقسمة. يغرق الناس في أوحال الخطايا والآثام لكنهم لا يرون ما يفعلون؛ لأن المنكر عندهم فقط هو ما يفعله الحاكم وحده دون سواه، فلا يشغل بالهم سوى: ماذا صنع الحاكم اليوم؟ وماذا سيصنع غدا؟ وكيف سيقسم المال؟ وكيف يولي المناصب؟ وهكذا هم في عذابات من الأسئلة التي لا تنتهي، لا يستبشرون بالأخبار الطيبة ولا يصدقونها؛ لأنها في نظرهم أخبار مسيسة، فهي على أية حال: كاذبة خاطئة، بل حتى لو رأوا آثارها بأم عينهم فهي لا تعدو أن تكون مجرد خدعة حبكها الحاكم أو من حوله للضحك عليهم، ومع تطاول الزمن وتوالي حملات التسييس الممنهجة تكون المكتسبات الضخمة في عيونهم أحقر من التراب، يسكنون البيوت التي لم يسكنها هارون الرشيد فتكون عليهم أضيق من جب إبرة، ويستلمون المرتبات التي تكفيهم حاجاتهم وكأنهم لم يستلموا شيئاً. هذا هو الذي يحصل عندما يسيس الناس وتمسخ فطرتهم من أشخاص أسوياء منطلقين في الحياة ومستقبليها بكل تفاؤل وسرور إلى كائنات سياسية متجمهمة تترقب الخلاص وتنتظر التغيير. وهو بكل أسف ما يقع اليوم في كثير من بلداننا العربية، والأخطر من هذا حينما يتم دفع الناس إلى ملعب السياسة عبر الشعارات الدينية البراقة وتوظيف عواطفهم تجاه الدين والشريعة ودفعها باتجاه المنازعة والمعارضة كما تفعله الجماعات الحركية اليوم.. في هذه اللحظة يتحول الخلاف في الرؤية السياسية الدنيوية إلى خلاف عقائدي صرف وعندها تحل الكارثة وتحصل الفاجعة. إن التعامل مع ولاة الأمور يجب أن يكون وفق الشريعة المحمدية لا وفق الشريعة السياسية، وإذا كانت الشريعة الأولى هي الحاكمة في التعامل فسيشيع عند الناس ثقافة الشكر والامتنان والشعور الدائم بالرضا والقناعة، وسيفشو بينهم الرفق والسكينة ويعم السلام النفسي والاجتماعي بين الناس، وأما حينما تحكم الثانية فينتشر البغي والظلم والجور ويشيع الفجور في الخصومات والكيد والمكر وتتوالد الأحقاد والفتن؛ لأن أطماع النفوس لا تنتهي ولا تشبع. فضلا على أن من أهم مشاريع جماعات العنف وأولوياتها هي إدارة التوجس بين الناس، بل إن من يقرأ في فلسفة جماعات العنف يدرك أنهم من المحال أن يدشنوا مشاريع (التوحش) قبل أن يفرغوا من استكمال مخطط (التوجس). وفي استعراض سريع للتاريخ القديم سيظهر لنا بجلاء أن مشاريع التسييس هي التي أفسدت الدول وحطمت المجتمعات، وحولت الناس من أفراد عاديين إلى وحوش بشرية متطرفة. وأوضح ما يكون التمثيل على ذلك بما حصل في عهد الخليفة الراشد عثمان بن عفان -رضي الله عنه- إذ لما نجح الخوارج في الكوفة ومصر بتسييس الناس ضد عثمان رضي الله عنه، فكان كل هم الناس يومئذ تتبع شأن عثمان رضي الله عنه: ماذا صنع عثمان؟ وماذا أعطى عثمان؟ ولماذا حمى الحمى؟ ولماذا ولى أقاربه؟ ولماذا أتم الصلاة في منى؟ ولماذا ولماذا؟؟ حتى تم تسميم الأجواء في عمل حركي ممنهج، عندها انطلق مشروع العنف المدمر الذي انتهى بقتل الخليفة الراشد عثمان رضي الله عنه أسوأ قتلة في التاريخ، وفي تفاصيل حصار بيت عثمان -رضي الله عنه- وقتله ما تشيب لهوله الرؤوس؛ فقد روت لنا الكثير من المصادر التاريخية أنه حوصرت دار عثمان من قبل الخوارج أربعين ليلة، ومنع عنه الماء حتى كاد يموت عطشاً، ولما صعد المنبر ليخطب في الناس كان من الهوان عندهم أن سلطوا عليه السفهاء والأراذل منهم، فرموه بالحجارة حتى سقط من على المنبر مغشياً عليه، وأخذوا عصاه التي يخطب بها فكسروها، وشدوا لحيته حتى نزعوا بعض شعرها، ثم خنقه أحدهم بيده وهو يقول بزهو وفخر: ما كان ألين من خلقه، لقد خنقته حتى نظرت إلى نَفَسه تردد في جسده كأنها نفس جان!!، ويأتيه الآخر وهو ناشر مصحفه يقرأ القرآن فيضرب يده بالسيف حتى يكاد يبترها، فينظر إليها عثمان وهي تسيل دماً ويقول: والله لقد كتبت بهذه اليد المفصل من القرآن، ثم يقوم أشقى القوم ويضع ذبابة سيفه على بطن عثمان -رضي الله عنه- ويتكئ عليها ليقتله أشد قتلة! هكذا كانت نهاية تسييس الناس وخداعهم والمتاجرة بعواطفهم وهمومهم، لقد أفضت إلى سفك الدم الحرام وانتهاك الحرمات وانفتح باب للفتنة لم يغلق حتى الساعة. إن هذا الخطاب المسيس كما أنه في غاية الخطورة فهو في غاية الدقة والخفاء، ذلك أنه لا يجمعه أيدولوجيا ولا مذهب، تراه مختلفاً حد التباين في الشعارات، لكن في ذات الوقت تراه متفقاً حد التماهي في فكرة التسييس، فمثلا في فتنة الثورات العربية -التي كان الخطاب المسيس فيها شعار المرحلة- التقى فيها الخطابان المتصارعان: اليسار واليمين، فكما رحب بها اليسار المنفلت هتف لها كذلك اليمين المتطرف: (يغرد) بها الليبرالي و(يرتوت) لها الإخواني. أما الخطاب الشرعي الصحيح المؤسس على نصوص الوحيين ومنهج السلف، فكان موقفه من التسييس صلباً وثابتاً عبر الاستمساك بأصل الجماعة والإمامة في كل الأحوال وتحت كل الظروف، لا يتعامل مع الدولة وفق فلسفة (التقاء الأجندة) ومكتسبات الحزب، إذا توهم أن مشروع الدولة قد يخدم أيدولوجيته تبناه ودافع عنه، وإذا رأى خلاف ذلك هاجمه واشتغل على تحطيمه ونزع المشروعية عنه، وإنما يسير وفق منهج ثابت وعقيدة راسخة شعاره الذي لا يتزحزح عنه: النص المعصوم: (تلزم جماعة المسلمين وإمامهم) تحت كل الظروف وفي كل الأحوال. كاتب سعودي [email protected]