بعد رحلةٍ طويلةٍ بين مناطق المملكة ودهاليز إعلامها المختلفة، جرّب الحل والترحال براً وبحراً وجواً، بين إعلامٍ مرئي وإعلامٍ مسموع وآخر مكتوب، يضع اليوم عفش أحباره على صفحات «عكاظ»، رئيس التحرير السابق لصحيفتي (الوطن والشرق) ثم مدير عام قناة الإخبارية لسنوات وقبلها مسؤول التحرير في صحيفة الحياة حتى مطلع الألفية، الكاتب الصحفي السعودي جاسر الجاسر، يختصر الكثير وكذلك يُسهب في تعرية الحقائق والآراء السياسية بجُرأته المعتادة وأدبه اللاذع.. واستكمالاً لشغف الترحال سافرنا معه عبر محطات البلاد العربية في رحلة تمنينا أن الله لا يطوي عنا بُعدها.. وإلى نص الحوار: • ما سبب عزوفك عن مواقع التواصل مع توجه الإعلام الحديث نحوها؟ •• ليس عزوفاً، إنما هي ساحة متدللة تتطلب حضوراً وتواجداً وتفاعلاً مستمراً لا يمكن أن تكون اتجاهاً أحادياً وإلا فقدت دلالتها. في بعض الأوقات لم أتمكن من تحقيق ذلك ثم شاب الأمر بعض الكسل والمماطلة حتى الآن وإن عدت إليها فسيكون ذلك مع الكتابة إن وجدت منفذاً لذلك. شخصياً كنت نتاج الصحافة المكتوبة بآلياتها المعمقة وإيقاعها المدقق بينما وسائل التواصل سريعة وعجلى وآنية؛ عمرها أقصر من الشهيق والزفير، دورتها مثل الأخبار العاجلة لا تدوم سوى الفترة التي تسبق الموجة التالية من مثيلاتها، كما أنها مجال متداخل مثل سوق الخضار؛ خليط صاخب، حاد النبرة يكسب فيها الصوت الأعلى ولا يكون الحوار سوى مساومة. هذا الوضع يتطلب مهارات لا أمتلكها، وفضاء أعجز عن السير فيه. هذا طبعاً يختلف عن كونها منصات إعلامية فاعلة لا بد من استثمارها لترويج وتعزيز انتشار المادة الإعلامية، ولفتح قنوات تواصل جديدة وحيوية. • كيف سيحصل المرتزق على قوت يومه بعد المصالحة الخليجية؟ •• لا خشية على المرتزقين في الإعلام، فلقد برهنت التجارب على سرعة تبدلهم، وقدرتهم على التلون، والتماهي الفوري مع أي سوق جديدة، فهي خبرة تراكمية اكتسبت مع الأيام مواصفات جينية، وما دام في الخليج لهم متسع من المساحة والمال والفرص فإنهم يتزايدون ولا ينقرضون. هم حالة عربية بامتياز. في البدء كانت نشأتهم أيدلوجية بحتة؛ تركز على الترويج للجمهوريات الناشئة ومهاجمة المملكة تحديداً لكنها تحت ضغط الجمهوريات الناشئة شكلت ارتزاقاً قسرياً بسبب الحالة القمعية للأنظمة الجديدة التي أخرست كل صوت يحاول التمرد على خطها فاستحال إيمانهم الأولي إلى أول أشكال المرتزقة إذ لم يعد حتى الصمت مقبولاً. في ظل هذه المعاناة كانت دول الخليج، الصاعدة إقليمياً واقتصادياً، هي الملجأ والمفر لمن استطاع الفرار حيث عاش الجيل الأول في رغد وأمان لا يمسسهم سوء، وهو وضع يستحقه الكرام لكن جينات المرتزق متلونة بطبعها لا تعرف ولاءً ولا امتناناً لذلك، ومع التجاذبات السياسية استخدموا الممر الخليجي الآمن لتكوين مؤسسات ارتزاق إعلامي تعتاش على دول الخليج التي لم يكن لدى أكثرها مؤسسات إعلامية فاعلة حيث اتسع الابتزاز وكان السمة الطاغية في الثمانينات تحديداً إلى أن بدأت المملكة بنشر حضورها الإعلامي خارج حدودها عبر وسائل مقروءة ومرئية منحتها القوة الإعلامية خارج أطر المرتزقة. المرتزقة اليوم يخدمون أجندات تستهدف المملكة سواء سياسية، أو أيدلوجية مثل جماعة الإخوان المسلمين، ويستخدمهم كل مناوئ للمملكة، بشكل مباشر أو غير مباشر إلا أن صوتهم لم يعد مؤثراً لوجود القوة الإعلامية السعودية ممثلة في قطاعات إعلامية وأفراد نشطين وواعين في وسائل التواصل المختلفة قادرين على كشف هذه النوعيات ونبذها. ستظل المملكة مستهدفة لثقلها على المستويات كافة، ومواقفها القوية، ونموها المذهل مما يغيظ خصوماً يشتغلون في الخفاء، ولن ينقطع سيل المرتزقة حتى إن لم يعد لهم تأثير سواء كان عملهم في منصات مؤسساتية أو عبر حسابات شخصية ممولة وربما الفرق الوحيد أن دخولهم التي كانت بالدولار أصبحت بالليرة التركية. • أين تقع عاصمة الإخوان على الخريطة في نظرك؟ •• كانت عواصم العالم العربي والغربي الحضن لهم، وحين فضحت السعودية أمرهم وصنفتهم جماعة إرهابية، وتكشّف دورهم الفاضح واللئيم في تخريب العالم العربي أصبحت تركيا مركز تجمع شتاتهم لتستخدمهم في ترويج عودة الهيمنة العثمانية بطريقة بائسة، إذ لم يعد لهم تأثير أو حضور حتى أن رموزهم التقليدية التي كانت تملأ الفضاء الديني والسياسي والإعلامي صخباً تبخرت كأنها لم تكن حال كل فعل زائف وموجة مضللة إذا تصدت لها الإرادة السياسية بحزم وصلابة. جماعة الإخوان المسلمين عاصفة سوداء مقيتة تاجرت بالدين حتى لا يكون لأحد وطن سواهم. كانت دول الخليج مركزهم تمويلاً واحتضاناً ومساحة رحبة للحركة تولدت منها وعبرها كل الجماعات الإرهابية بدءاً من جماعة تنظيم الفنية العسكرية في مصر عام 1974 حتى أحدث خلايا داعش. حين أدركت المملكة مكمن خطرهم فاكتسحتهم، زالت الغمامة واتسعت الرؤية لم يعودوا اليوم سوى شرذمة منبوذة تتلاعب بها السياسة التركية ومعها الإيرانية وستلفظهم بعد أن تنتهي منهم. صحيح أن المملكة والإمارات نبذتاهم كلياً لكن لا يزال لهم في بعض دول الخليج مراكز نفوذ ومصادر تمويل تجعلهم يتوهمون ديمومة وجودهم وهذا مكمن خطرهم. اليوم يتمركزون في تركيا ويتعاونون مع إيران، ويتدربون مع «حزب الله» ويعتاشون من بعض دول الخليج لكنهم أقرب إلى المرتزقة إذ تتاجر تركيا بهم ظناً وتوهماً أنهم ما زالوا يحركون الشارع العربي ويؤثرون فيه لكن اليوم غير الأمس؛ الجيل الذي كان مرتهناً لهم استيقظ ووعى، والجيل الجديد لا يعرفهم أصلاً ولا ينخدع بهم. • ما الوقود الذي يستعين به أردوغان لتبحر سفينته في مستنقعه السياسي؟ •• السفن لا تبحر في المستنقعات، فقط الطحالب تنمو فيها؛ لذلك لا توجد سفينة إنما هي حالة هوس لم تعد تبصر أن العالم يتغير. تركيا اليوم تتاجر بعملة لا يشتريها الناس، وتعيش في تصورات منفصلة عن العالم حتى أوراقها الإعلامية لا يقرأها أحد، وإن لم تقرأ السياسة التركية هذه التغيرات فإن المعاناة ستكون من نصيب الشعب التركي الذي يدفع الثمن. الصخب لا يعني الفعل ولا يحدث تغييراً ولا يصنع فارقاً بل يؤدي إلى الإقصاء والنبذ لأنه تشويش غير مجدٍ. لم ينجح أردوغان سوى في الخطابات وهي لا تولد وظائف ولا تقصي فقراً ولا تجلب أصدقاء ولا ترفع سعر الليرة التركية إطلاقاً. أردوغان أبرع الشخصيات في استجلاب العداوات واتخاذ القرارات الخاطئة ما جعله محاصراً في شبكة من التخبط قد لا تخرج منها تركيا ومن عواقبها الكثيرة إلا حين يغادرها أو تغادره. المستنقعات لا تفضي إلى شواطئ وليس لها مرسى، ودورة الحياة فيها لا تحتضن سوى الطفيليات. • بعد المقاطعة الخاصة للمنتجات التركية، هل وصلت الرسالة للرئاسة التركية؟ •• وصلت وبقوة، ولكن الأهم أنها وصلت للناس في تركيا الذين يتساءلون عن سبب هذا العداوة من أردوغان التي أضرتهم. قيمة المقاطعة أنها حس شعبي تبلور في موقف متماسك بسبب تجاوزات أردوغان غير المقبولة مبرهناً على موقف وطني أثمر جدية تفوق، في صلابتها، الفعل السياسي. أهمية المقاطعة الشعبية في إعلان الروح الوطنية العالية لدى السعوديين، وشراستهم في الدفاع عن وطنهم بعد أن مرت عليهم عقود من غبار الجماعات الصحوية التي عملت على تدمير الهوية الوطنية وتهميشها. هذه الرسالة لم تصل تركيا فقط وإنما أي آخرين يفكرون بممارسة مماثلة. • متى تنتهي أوهام الخلافة العثمانية في تركيا؟ •• هل يبدو أنها ستنتهي؟ أردوغان يعيش في أوهامها، وحتى الآن لم يدرك ذلك رغم كل الخيبات، والفشل في جميع الجبهات، لكن تركيا قد تدرك ذلك إن استمر هذا الحال حتى عام 2023م. • ما المترتبات على وضع الحوثي في قائمة الإرهاب، وهل هذا مؤشر على سحقهم في ساحة المعركة؟ •• خطوة متأخرة جداً وتتطلب تضامناً دولياً ليس فقط لصالح اليمن بل لمنع تلبيس الجماعات الإرهابية هيئة الحركات السياسية. الحوثيون هم كل مشاكل اليمن لكن الخطورة هي في التساهل مع إيران لأنها المحرك والممول، وما الحوثي سوى واجهة كما هو الحال مع جميع الجماعات الإرهابية مثل «حزب الله» والجماعات العراقية ومن الممكن ضم «حماس» أيضاً. التحالف العربي لا يخوض حرباً داخل اليمن إنما يدعم الشرعية وإذا استثمر اليمنيون هذا الدعم وعملوا على أساسه فإن النصر هو، عملياً، هزيمة لإيران، وتطهير لليمن من كل رجسها وهو يوم آتٍ. المملكة لن تقبل أن تكون صنعاء قاعدة إيرانية ومركز تهديد لها، التحالف العربي لا يحمي اليمن من الحوثي بل من إيران فليس للحوثي أي مطلب سياسي سوى ما تمليه إيران. عملياً هو يحارب التغلغل الإيراني. والهجمات الموجهة على السعودية هي فعل إيراني وسلاح إيراني لكن إيران لا تمتلك العزة السياسية لتكون صداماتها مباشرة بل تستخدم «التقية» وتتستر بالوكلاء مغذية موجة عربية من التطرف المذهبي، وإن لم يبتر الرأس ستبقى الأذناب نشطة. تصنيف الحوثي إرهابياً سيغلق الأبواب أمام إيران ويكبل حركتها ويؤدي، تالياً، إلى عدم القدرة على تغذية الحوثي بالسلاح أو تمويله. المترددون في تصنيفه إرهابياً ليس عن قناعة بسلامة توجهاته وإنما لأنهم يريدون بقاءه شوكة ضد السعودية، وورقة يستخدمونها وقت الحاجة لكن إن لم يدرك الحوثي أنه يمني وأن اليمن هي أرضه العربية وليست جزءاً من طهران ولن تكون كذلك، فإنه سيلحق بالنظام الإيراني وسيكون صفحة سوداء في تاريخ اليمن مثل الكوارث والمجاعات والأوبئة تتجاوزها اليمن كما تجاوزت صعاباً كثر في تاريخها. • في السياسة نقاطع العدو الواضح، لكن ماذا عن العدو المتخفّي؟ •• الشيطان أيضاً عدو خفي. الأعداء الخطرون، مثله، لا يكشفون وجوههم ولا يظهرون نواياهم. هم من يشاركونك طاولة الطعام، من يدخلون دارك ويبتسمون في وجهك، هم خائنو الثقة والمتسللون من دوائر الطمأنينة، ومن يثقبون السفينة التي تحملهم لفرط عدواتهم. هم إما قريب أو صديق أو شريك أو مواطن لا قيم لهم ولا كرامة. يكثرون عند تراخي الإرادة السياسية ولدينا منهم الذين كانوا يسمون المملكة هذه البلاد وأرض الجزيرة ولا تأتي «المملكة» و«السعودية» على ألسنتهم. ويسمون الإرهابيين ب«الشباب» ويدعون إلى تفهم إرهابهم؛ الذين كانوا يدرسون أبناءنا، ويؤمون مساجدنا، ويختطفون المجتمع ويوجهونه نحو الهاوية. هم الفاسدون الذين يجرفون قيم المجتمع، وينهبون مصادره ويدمرون تنميته. هم الذين أرادوا مسخ هوية الوطن وتذويبه ليكون هلامياً وهشاً. اكتشافهم يتطلب فراسة واستشعاراً دقيقاً لحركة المجتمع في الداخل وما يجري فيه وهو ما فعله الأمير محمد بن سلمان حين اكتسح كل هؤلاء فأنقذ المملكة من مصير مظلم وأزاح عن كاهلها هذا الجاثوم الخانق، وأعاد للمجتمع قيمه الثابتة، وأعاد له صورته النقية فنهض متطلعاً لمستقبل جميل تجسد صورته الثقة والتفاؤل والحماس والعمل والابتكار. • هناك معارك صامتة مُعادية حول أسوار السعودية، من يرأسها؟ •• لا أظنها صامتة لكنها متلونة ومتخفية أحياناً. كل الحركات التي عصفت بالعالم العربي كانت معادية للسعودية؛ القومية والاشتراكية وما يسمى بالإسلامية لأن المملكة بثقلها ودورها وأهميتها كانت سداً ضد كل ذلك. اليوم هذه المعارك أشد شراسة؛ لأن دور المملكة يكبر ويمتد، ولأن قوتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية تنمو وتتسع، ولأنها مركز الثقل والقرار خليجياً وعربياً وإسلامياً، ولأن حضورها الطاغي دولياً يتجاوز كل من يحاول عبثاً حشر نفسه في الصفوف الأمامية. هي حصانة الخليج، وقائدة العالم الإسلامي ولن ينازعها في ذلك أحد وإن سولت له نواياه وأحلامه، هي المنقذ من موجة «الربيع العربي» التي عصفت ببلدان كثر، وهي اليوم السند الذي يدعم استقرار العالم العربي. هي التي حاربت الإرهاب والتطرف، وهي التي تدعم استقرار الأسواق النفطية. هي التي تمد يد العون لكل شقيق وصديق وإن نالت نكراناً وجحوداً بعد ذلك. هي التي تتصدر كثيراً المؤشرات العالمية وتتقدم، كل يوم في مؤشرات جديدة. هي التي تبني اقتصاداً متيناً متعدد المصادر بعد أن نفضت الريعية و«إدمان النفط». هي التي وضعت كل اقتصادها في خدمة الإنسان منذ جائحة كورونا وأدارت قمة العشرين وجعلتها أكثر نجاحاً. هي التي تسير وفق رؤية محددة ومتجددة تتحقق نتائجها تباعاً وتفتح خيارات غير مسبوقة للمستقبل. هي التي واجهت مشاكلها الداخلية بشجاعة وشفافية وعالجتها حتى لا تكون عقبة في مسيرتها. مرت فترات ظن المتصيدون أن المملكة تراجعت وضعف تأثيرها، وتزاحموا لاقتسام أدوارها لكن نهضتها قضت على كل حلم، وأسقطت النوايا السيئة. المعارك والحملات حول المملكة وضدها كثيرة، ووجودها طبيعي لأن العظمة محاطة بالأعداء والحاسدين والمغرضين لكن كل هذا يتآكل وينهار مع كل خطوة جديدة، ولو أشغلت المملكة نفسها بهذه العدوات لما تحركت خطوة واحدة لكنها وضعت رؤيتها وسارت عليها وهذا ما يجعلها تصل أولاً، وكلما تقدمت خطوة كانت الأصوات والأفعال المضادة أقل سماعاً وأقل تأثيراً. • هل هناك من يصدّق شائعات الحسابات المستعارة المُعادية، وماذا تقول لأصحابها؟ •• نعم مثل هذه الحسابات كثيرة، وهي إحدى الوسائل الجديدة للحروب غير المعلنة. هدفها استغلال التواجد السعودي الكثيف في جميع منصات التواصل المختلفة، وتمرير الرسائل المحبطة والمشككة لكن الجميل فيها أن سطوة السعوديين في هذه المنصات كانت هي التي تكشفها وتفضحها، وبينما كان هدف الحسابات المعادية زعزعة ثقة السعوديين إلا أنها عززت هويتهم الوطنية وغيرتهم وصلابتهم. • في هذه الحقبة، اللجوء السياسي حاجة إنسانية أم عداوات تستقطب شباب الوطن؟ •• اللجوء السياسي له بوابات عدة لكنه حالياً يستخدم ورقة ضغط سياسية لأسباب مختلفة. بالنسبة إلى المملكة استخدمت دول غربية هذا الإجراء- اللجوء عموماً وليس السياسي- للتشويش على المملكة. مع ذلك فليس لها تأثير ولا أهمية فلا توجد موجة من شباب الوطن تطلب اللجوء وإنما حالات فردية فعلت ذلك إما لتحقيق رغبات شخصية، أو هرباً من فساد وخيانة. مئات الآلاف من السعوديين درسوا في جامعات أوروبية ولم يطلبوا اللجوء، بل ندر الذين فضلوا العمل والبقاء في البلدان التي درسوا فيها مع أن مثل ذلك وسيلة تواصل حضارية. السعوديون يسافرون سنوياً ومع ذلك لم يطلب أحد اللجوء. القصة ببساطة أن المملكة في دائرة الضوء دوماً وكل حدث مهما كان صغيراً يصبح متصدراً للإعلام. اليوم، مثلاً، لو تنشب خناقة عادية بين اثنين في شارع تصبح خبراً وقصة في كثير من الوسائل. هذا هو قدر السعودية وإحدى نقاط جمالها ودلالة أهميتها. • كيف تصف الفئة التي تمجّد الطغاة المقبورين مثل صدام حسين ومنهم على شاكلته؟ •• مجرمون مثله. هذا خلل عربي فريد يتطلب تحليلاً اجتماعياً. حينما غزا صدام الكويت هللت دول عربية، وتغنت الحركات الفلسطينية بهذه الحركة، وتدافعت الجماعات الإسلامية إلى دعم صدام لولا موقف المملكة الصلب والحازم حتى عادت الكويت إلى أهلها. المؤسف أن الكويت كانت حضناً للفلسطينيين وقدمت لهم كل الخدمات مثل الكويتيين تماماً ومع ذلك كانوا في استقبال دبابات صدام، ونهبوا البيوت الكويتية باستثناء قلة نبيلة حفظت الود. ما الذي يجعل شخصاً مشرداً يتنكر لبلد كانت له المنزل والأهل والرزق؟ ما الذي يجعل ياسر عرفات الذي يعاني من احتلال وطنه أن يذهب لصدام ليحتفل معه بالغزو بينما كان نبتة كويتية ولم يقف معه سوى الخليج وأهله؟ الذين يرون صدام بطلاً، والإرهاب عملاً مشروعاً، ويعتقدون أن «حزب الله» الذي قتل وشرد السوريين هو السد المانع ضد إسرائيل، وأن هيمنة تركيا واعتداءها على بعض الدول العربية إنما هو عودة للخلافة الإسلامية هم الخلل الذي يعيق مجتمعات عربية وإسلامية من النهوض والاستقرار ويجعلها في حالة تخبط دائم. • في عصر السرعة، كيف ترى التلفزيون السعودي؟ •• التلفزيون السعودي قناة رسمية للأخبار والتغطيات الرسمية وليست مهمته المنافسة في السوق، وليس المطلوب منه أن يكون الأكثر ربحية ومشاهدة لأن الحكومة تتولى الإنفاق عليه ولا بأس أن يستثمر امتيازه الخبري هذا في استقطاب الإعلان. من جهة أخرى فإن هيئة الإذاعة والتلفزيون لديها منصات أخرى مؤهلة للمنافسة شريطة أن يكون لها نظامها المستقل مثل الهيئات الأخرى، وأن تتمتع بالمرونة في التعاقدات بما يوفر لها طواقم محترفة لتكون بيئة جاذبة بدل أن تتسرب كفاءاتها إلى منصات تجارية تقدم مزايا وحوافز أفضل. شخصياً أنا متفاءل بحدوث تغيير إيجابي مع الدكتور ماجد القصبي وهو من بيت صحافي عريق، ويتمتع بذائقة مهنية رفيعة، ويتكئ على خبرة إدارية عريضة، ويدعم زملاءه، ويشجع المهنية في العمل، لكن ذلك يتطلب وقتاً لمعالجة تفاصيل وإجراءات كثيرة. • هل ما زال هاجس الرقابة لدى مسؤول المنبر الإعلامي -بعد الدعم والمرونة من قِبل الحكومة- موجوداً؟ •• الرقابة، عربياً، هي المهمة الأولى للمسؤول عن أي منبر إعلامي. غالباً حين يقتعد أي شخص كرسي الرئاسة في وسيلة إعلامية رسمية فهو مبرمج تلقائياً على أن يكون رقيباً. حين يراجع مادة إعلامية لا تهمه الجودة أو الابتكار بل اكتشاف المحاذير الرقابية. صحيح أن الفضاء الإعلامي زادت مساحات حركته لكن الاستجابة لا تتم بين يوم وليلة بل تحتاج نوعيات متحررة من التربية الرقابية المتجذرة وهو ما يتطلب وقتاً ومتابعة مستمرة حتى لا تفقد المنصات الرسمية حضورها في المشهد. المشكلة أن الإعلام يختلف عن أي مجال آخر فالكل يفتي فيه، وكل مسؤول يظن أن مهمة الإعلام المحلي هي الترويج له أو على الأقل عدم انتقاده. هذا تصور يجب مسحه فالإعلام مهمته التيقن من خدمة الناس وليس الترويج. وأي صحافي يجب أن يحظى بالحماية حتى لا يكون ضحية أي خطأ أو وجهة نظر مختلفة. • حرية الرأي في الإعلام العربي، مكفولة أم مقفولة؟ •• يعتمد ذلك على المناخ العام، وإدارة كل وسيلة إعلامية. المهم أن تكون الحرية محصنة ومحددة قانونياً؛ بمعنى أن يعرف كل إعلامي الإطار القانوني لأي فعل. أحياناً تفهم حرية الرأي على أنها المقال السياسي الحاد لكنها عملياً هي حدود التجاوز على الآخرين أو الإساءة لهم أو التضليل والتزييف معلوماتياً وهو ما لا يمكن تأطيره إلا عبر صورة قانونية متكاملة وواضحة؛ لذلك لا تزال حرية الرأي مشوشة وغامضة وتخضع كل مرة لتفسيرات شتى فلا يعرف أحد متى تكون مكفولة أو مقفولة. • ما توجيهاتك للمقبلين من الجيل الجديد على الإعلام السياسي؟ وما الذي يميز الجيل السابق؟ •• لا يوجد إعلام سياسي، وإنما كان هناك كتاب سياسيون أو يتناولون جوانب سياسية. في رأيي أن الكاتب السياسي المهم سعودياً هو عبدالرحمن الراشد وبالمناسبة هو الأقدر على الإجابة المعمقة عن هذا السؤال؛ لأنه جمع الصفتين: الكتابة والمعرفة السياسية الفعلية، وإدارة مؤسسات إعلامية. • هل تتبع هيئة مكافحة الفساد أسلوب «إياك أعني واسمعي يا جارة»؟ •• هيئة مكافحة الفساد مهمتها اصطياد كل أشكال الفساد في المملكة تحصيناً للمملكة من هذا السوس الذي ينخر المجتمعات واقتصادها ويشوه قيمها، لكن الدعم الذي تحظى به من الملك وولي العهد، وأدواتها التنظيمية المكتملة هو الذي أسهم في نجاحاتها مما جعل المملكة تقفز قفزاً نحو المراتب المتقدمة عالمياً في مؤشرات مكافحة الفساد. هي لا تُسمع أحداً لكن الجيران يسمعون، ويشاهدون ما حققته المملكة في هذا المجال والتزامها بمنع الحصانة عن كل فاسد، ومساءلة كل فاسد إن كان على رأس العمل أو انتهى عمله. الجيران يقرأون بيانات هيئة مكافحة الفساد فلا يجدون استثناءً لأحد: أمير، وزير، قاضٍ، ضابط...إلخ، يستغربون من هذه الممارسة التي لا تعرفها دول كثيرة أو لا تجرؤ على تطبيقها. السائد عربياً أن مكافحة الفساد هي لعبة استعراضية أو تصفيات داخلية لكنها ليست فعلاً حقيقياً؛ لذلك كانت الممارسة السعودية مفاجئة جداً لكنها بعثت الأمل عند الجيران أن القضاء على الفساد ليس مستحيلاً متى ما توافرت الإرادة والشفافية والعدالة كما حدث في المملكة. الجيران المختلفون كلما أثقل عليهم الفساد وطأته تنادوا: نريد محمد بن سلمان إذ أصبح الأمير الرمز المعادي لكل أشكال الفساد. الجيران سمعوا ويسمعون وبعضهم بدأ يتحرك، وبعضهم يرغب ولا يستطيع لكن ستكون ممارسة المملكة إلهاماً محركاً للقيام بالمثل. • ما رأيك في كتاب الأمير لنيكولو مكيافيلي، ومنهم القادة الذين يطبّقون نهجه اليوم؟ •• هل نتذكر كتاب «بروتوكولات حكماء صهيون» وكيف راج بين الناس، من خلال الإخوان المسلمين، حتى توهم كثر أن العالم لا يخرج عن تعليماته بل يسير على مساراته؟ كتاب «الأمير» لمكيافيلي من هذا النوع كان نافعاً لبعض السياسيين في حينه لكن السياسي اليوم يخوض في مجالات، ويعايش تبدلات وتحولات، ويواجه متغيرات وتعقيدات لا يسعها كتاب، ومن يتكئ عليه اليوم فإنه يهجر واقعه ويعيش في الماضي ومن يفعل ذلك ليس سياسياً. في ظني أن من يقرأه اليوم يفعل ذلك لقيمته التاريخية وصيته في الذاكرة الثقافية وليس استرشاداً به. • ما العنوان السياسي المناسب لعام 2020؟ •• عام 2020 هو العام الذي واجه العالم فيه عدواً مشتركاً لم يستثن أحداً. هو العام الذي يفترض فيه أن يكون تعزيزاً لكل القيم الأخلاقية التي تجمع شعوب العالم. هو العام الذي شعر الجميع فيه بالخوف والقلق والاختناق الاقتصادي والعزلة والتباعد وهي جميعاً كانت حصراً على الدول الفقيرة والمنسية. هو عام الكمامة التي وحدت صورة العالم، لكنه أيضاً عام المنافسة والأنانية والصراع الوجودي فمع بدء ظهور اللقاحات عادت الأنانية والذاتية لترفع رأسها من جديد فبدأت بعض الدول احتكار لقاحاتها ومنع تصديرها والاستئثار بها. هو في المحصلة العامة عام الرهان الأخلاقي والإنساني فإما أن ينجح العالم في ذلك أو يعود إلى حالة من التوحش غير مسبوقة. • لو كنت مذيع أخبار، ما الخبر الذي تتمنى إعلانه؟ •• الأوضاع اليوم في العالم لم يعد فيها خبراً واحداً طاغياً لأن حركة العالم أسرع من الرصد، لكن الخبر الذي يهم السعوديين هو إعلان اكتمال رؤية المملكة 2030؛ لأنه تحقيق كل الطموحات والأحلام، وعلامة القوة والإنجاز. لأنها المرة الأولى التي نسير فيها إلى وجهة محددة واضحة المعالم والأهداف، ولأنها الطريق الذي نسير فيه ونراكم المنجزات وصولاً للهدف النهائي الذي هو صورة المملكة وقدرها وحقها. • بعد حلك وترحالك بين المناطق والصحف، أين ستكون المحطة القادمة؟ •• استفدت من الترحال أنني عشت في جميع مناطق المملكة، واستفدت من التغيرات والتنقلات ما أرجو أن يكون معرفة ونضجاً، والكثير من التجارب الرائعة مع شباب سعوديين من الجنسين برهنوا في كل مرة أنهم مبدعون وملتزمون وينسفون الصورة النمطية السلبية التي تحاول إحباطهم، وأن المملكة مليئة بهذه الطاقات التي لا تحتاج سوى الفرصة والمكان والضمانة للعمل بجدٍ. شخصياً أتمنى العودة للكتابة، وأتردد؛ لأنني أخشى أن أكون كاتباً ضعيفاً ومملاً ومكرراً يسيء إلى الكتابة قبل الإساءة لنفسه. • تسلقت جبال الصحافة، ووقفت على منصات التلفزيون، أين وجدت الجاسر أكثر، وما أبرز ما تحمله ذاكرتك منها؟ ••الإعلام في الأصل واحد لكنه يتحور في أشكال متعددة سعياً للوصول ونقل المعلومة وصناعة التأثير. الصحف لها إيقاعها الهادئ، في ما سبق، لأنها اليوم تطل على منصات عدة تسارعية وتفاعلية. التلفزيون أكثر تعقيداً فهو أكثر سرعة، ومتطلبات الصورة البصرية تحتم عليه معالجة مكثفة قبل أن تفقد القصة رونق حياتها. إذا كانت الصحافة، في معظمها، عملاً فردياً من خبر وتحقيق ومقال فإن التلفزيون عمل جماعي لاتظهر مادة إلا من خلال فريق أوركسترآلي يعزف بإيقاع متناغم فإن شذت إحدى آلاته فسد العمل كله. استمتعت بكل جانب وكان إضافة وتطويراً. حين بدأت صحافياً لم يكن للتلفزيون ذلك الوهج، وكانت القراءة متعة الناس فهي تدوم أطول، وتعمر في الذاكرة أكثر. في كلا الحالين فإن الهاجس الصحافي هو الأساس لكنني تعلمت في التلفزيون أكثر، وحاولت بناء مهارات أفضل وفي النهاية القرار للقارئ والمشاهد فإما أن يحبا النتيجة أو يرفضاها وأتمنى ألا تكون قد ذابت وانمحت في الاثنين (صحافة وتلفزيون) ولازال بعض بقاياها لدى الاثنين (القارئ والمشاهد). •هل مازلت ترى المتعاونين في الصحافة السعودية «مُرتزقة»؟ ومن يتحمل وِزر هذا الخلل؟•• تغير المشهد كثيراً ولم تعد الصحف بمتعاونيها هي الركيزة. في فترة سابقة كان عدد من الصحف يتكئ على المتعاونين إما لأنهم بدون حقوق وأقل كلفة، أو لتملق الإدارات التي يعملون بها ولتسريب الأخبار ما دفع كثيراً من المنتفعين لاستثمار هذا الوضع لصالحهم وتحقيق منافع لهم، من جانب آخر كان هناك متعاونون يسري في دمهم عشق الصحافة لكنهم لايجدون فرصة مستديمة وآمنة لهم، أو يخشون من الفصل المتكرر الذي كان سمة سائدة فيخسروا عملهم لذلك كانوا من أهل البرزخ، وأضافوا للصحافة كثيراً دون خشية من اليوم الأسود؛ يوم الفصل. بعضهم كان، بسبب ذلك، أكثر قوة وابتكاراً من المتفرغين لأنهم محصنون من الفصل الفجائي. • لِمن تعتذر عبر هذا الحوار؟ •• كنت أحرص أن أكون داعماً لكل زميل وزميلة لأن الصحافة لايصنعها فرد، ولأن ما تحدثه من أثر هو نتاج كل فرد نال الدعم والمساحة. أعتذر لكل زميل وزميلة إن كنت قد بخست حقه أو أعقت مسيرته فلقد شرفت خلال السنوات الماضية بزملاء كثر في الصحافة وفي التلفزيون كانوا مبدعين ولكل منهم بصمته الخاصة وأذكرهم بكل خير وود ولعل شعورهم كذلك. وأسعد كثيراً حين أرى أكثرهم في الصفوف الأمامية، ومن الرموز الإعلامية سواء كانوا من الصحافيين أو المصورين والمخرجين.