الحديث عن أحمد الحربي الإنسان أيسرَ لو كنتُ أعرِفُ من أينَ أبدأ! إن مقالًا عنه لا يوفِّيه حقَّه، وإن نقاشًا عنه ليس كافيًا لدراسة إنسانيَّتِه. أبدأ من عشقه لبلاده وإيمانه بها، وحياته التي جعلها وَقْفًا على ثلاثيةِ المملكة والبشر والأمل، التي صدحت بها دواوينه وشرقت بها دراساتُهُ؟! أم أبدأ من إنسانيته المتدفِّقة خارج القصيدة، وكسرِهِ الفاصل بين ما يؤمن به وما يفعله؟! أو ربما من شاعريَّتِهِ الواثقة وغنائِهِ المنصبّ في قوالب القصيدة صبًّا؟! هل أحكي عن رئاسته لنادي جازان، أم أتحدث عن مقالاته في الصحف، أخبركم عن جوائزه، أو تراجمه ومطبوعاته، أو دواوينه وأنشطته؟ !ثم كيف تتحدث طالبة عن أستاذها من غير أن تنقصه بعض حقه؟ وكيف يجاري قلمي لسانه؟ وكيف يضاهي منثوري شعرِيَّتَه الفَذَّة؟ لا أقدر على وصف إنسانيته غير كلماته هو، في قصيدته هو؛ يقول الشاعر في تكريمه الأخير: جازان وانتفضَتْ بقايا أحرفي تحكي جمالَ الأرض والإنسانِ الطيبون على الثرى وقلوبهم بيضاء سر جمالها الفتان الصابرون على الأذى وصدورهم مفتوحة للحب والإحسانِ المؤمنون وكل شيء حولهم في الحد مقذوفًا مع النيرانِ هو من هؤلاء الرهط الطيبين الصابرين المؤمنين، غير أنه أقدرهم على التعبير، لقد ألَانَ الله له وَعِرَ الكلمات فعبَّد بها الحربي طريقًا، لم يختره لتمجيد ذاته، أو لمدح نفسه، أو للإطناب فيما يحب، وكيف يحب، وإنما صاغها في نَظْم أدبي هو دائرة أخلاق جامعة، وبؤرة تحتضن الإنسانية كلَّها، وتبحث عن المشترك الذي يضمنا جميعًا. صَنَعَ راية سلام وانسجام ، راية تجميع لا تفريق، وراية اتحاد لا تشتت! أليس هو القائل: الشعر ذلك الطائر الجميل المحلق في سماوات من الخيالات الواسعه، وفضاء من الآمال العميقه، ذلك البلبل المغرد على أفنان الحدائق الغناء بظلالها الوارفة، الذي ينتقل من فنن إلى فنن على دوحة الأدب السامقه ، ويطير من غصن إلى غصن ليلامس شغاف القلوب في شفافية رقيقة. أليس هو الشاعر المتحيِّز إلى القرية والفل والسيل، والنقاء الروحي والصفاء الأبيض، الباحث دائمًا عن المثل العليا، والمتكئ على بلاغته الجزلة؟ أليس هو الشاعر المرتكن على جمال تراكيبه من أجل نصرة مظلوم في أقاصي الأرض، ومعاداة ظالمه؟! أليس هو الشاعر الذي تستدعيه العواصم، وتطلبه الأندية الأدبية، وترجوه قنوات التلفزة، وإذاعات الراديو ووجوه الصحف والمجلات، ليعطي وصفة الخيرية ومعادلة النجاح وتقبُّل الآخر؟ أليس هو الشاعر الذي لا يحفل بالجوائز، ويعتذر في أدب جمّ عن دعوات تكريم، ويفضِّل أن يداعب سحابة بيضاء في يوم صافٍ؟! أليس هو الشاعر الذي حُبِّرت في إنسانيته الصفحات، ووزّعت على تواضعه المقالات، وكتبتُ عنه وأَكتب ونكتب، وجهًا مبرّزًا للمملكة حين تتعدد الوجوه، ومواطنًا صالحًا حين تتكالب التحديات، وبانيًا بالشعر صرحًا للمملكة من أغلى الصروح وأكثرها صدقًا؟! إن منجزه منجز للذات الشاعرة، ولحقيقة الوجود والإنسانية، أفنى جهده وعمره في إعادة التواؤم بين البشر وبيئتهم. إنه تحفيز لهمم الباحثين عما يحقق حلم الإنسانية في العيش المشترك وجني الثمار معًا. وإتاحة الفرصة للعودة إلى التراحم والدعم، ونبذ الحروب، ورفع شعار السلم الاجتماعي، بذلك يعود الشعر لوظيفته الحقيقية؛ جسر بين الحلم والحقيقة، أو كما عَنْوَنَ الحربي إحدى قصائده: (غدًا.. يبدأ الآن)!