الشعر عند العرب لم يكن قولاً عابراً، بل كان فضاءً واسعاً يعبر فيه العربيّ عن أحاسيسه، فيرسمها في لوحة رسامٍ، كأن من يقرأها أو يسمع بها، يعيش تفاصيلها، تملؤها الحكمة الأخّاذة، والأخلاق السامية الرفيعة، يعتز به أهله ويفتخرون بكل ما فيه، وإن شابته بعض الشوائب لا تعكر صفوه الجميل، من الشعراء الكميت بن زيد بن خنيس الأسدي، أبو المستهل. ينتهي نسبه إلى مُضر بن نزار، من أهل الكوفة. اشتهر في العصر الأموي. وكان عالماً بآداب العرب ولغاتها وأنسابها، قال عكرمة الضبي: «لولا شعر الكميت لم يكن للغة ترجمان، اجتمعت فيه خصال لم تجتمع في شاعر». قال صاحب الأغاني «شاعر عالم بلغات العرب، خبير بأيامها، من شعراء مضر وألسنها المتعصبين، ومن العلماء بالمثالب المفاخرين بها»، وأشار الجاحظ إلى موهبته الخطابية، اتخذ الكُميت في مستهل حياته مهنة التعليم، إلا أنه لم يرتزق منها، قال عنه عبده النساب: "ما عرف النساب أنساب العرب على حقيقته حتى قال الكُميت النزاريات، فأظهر بها علماً كثيراً، ولقد نظرت في شعره فما رأيت أحداً أعلم منه بالعرب وأيامها). من شعره في مدح بني نزار قوله: ألَم تَتَعَجَّبي مِن رَيبِ دَهر رأيت ظُهُورهُ قُلِبت بُطُونَا فإنَّكَ قَد رأيتِ وإن تَعِيشِي تري ويرى عجائب ما رَأينَا رأيتُ الخُرسَ تَنطِقُ في زَمَانٍ يُكَلِّفُ أهلُهُ الإبِلَ الطَّحِينَا ونحن أَولاك أَنجُم كُلِّ لَيل يُؤَمُّ بها وأَبحُرُ مُظمئينَا بَلَغنَا النَّجمَ مَكرُمَةً وعزاً وفُتنَا أيديَ المُتَطَاولينَا وجَاوَزنَا رَوَاسِيَ شَاهِقات بِلاَ تَعَبٍ ولاَ مُتَطَاوِلِينا وَإِن يَعظُم مِنَ الحَدثانِ خَطبٌ تَجِدنا فِيهِ غَيرَ مُقَلَّمِينَا تَجِد أَسيَافَنَا مُتَأَلِقَّاتٍ يُحَاكِينَ البُرُوقَ إذَا انتُضِينَا فَنَحنُ فَوَارِسُ الهَيجَا إذا مَا أبَالَ الحَاصِنَ الحَدَثُ الجَنِينَا وَلَم نَفتَأَ غَدَاة هَب وهَال لِخَيرَاتِ الكَوَاعب مُجتَلِينَا متى نَنزِل بِعَقوَةِ أَهل عزٍّ نَطَأهُم وَطأَةَ المُتَثَاقِلِينا إِذَا غَضِبَت سُيُوفُ بَني نِزَارٍ عَلَى حيٍّ رَجَعنَ وَقَد رَضِينَا ونَمنَعُ بالأَسِنَّةِ ما سَخِطنَا مُكَابَرَةً ونَأخُذُ ما هَوِينَا وَمَن يُطرِف عَلَى الأثذَاءِ وَهناً ويُغضِ على تَجَلجُلِهَا العُيُونَا فإنَّ الاَكرَمِينَ بَني نِزَارٍ عَلَى الأَقذَاءِ غَيرُ مُغَمِّضِينَا تَنَاولَنَا الأَقَاصِي من بَعِيد وقَلَّمنَا أَظَافِرَ مَن يَلِينَا رَجَعنَا بِالظَّعَائِنِ مُردَفَاتٍ وَثَوَّرنَا النَّوَادِي والعُطُونَا لَنَا المِسكُ الفَتِيتُ نُعلُّ مِنهُ جُلُوداً ما تَفِلنَ وما عرِينَا ففي هاذاك نَحنُ لًيُوثُ حَربٍ وفي هذا ثِمالُ مُعصِّبِينَا تَرى الجُرد العِتَاقَ إِذا فَزِعنَا وأطرافَ الرِّماحِ لَنَا حُصُونَا وَنَجلُو عِظلِمَ الهبواتِ عنَّا بِغُرٍّ بِالفِعَالِ مُحَجَّلِينَا لَنَا الجُردُ العِتَاقُ مُسَوَّمَاتِ مَعَادِنُها لَنَا الاُولَى وفِينَا نُبَاري الرِّيحَ مَا بَرَدَت وفئينَا لأَموَال الغرائب ضامنُونَا لَنَا قَمرَا السَّماءِ وكُلُّ نَجم تُشيرُ إلَيه أيدي المُهتَدينَا تَضِيقُ بِنَا الفِجَاجُ وَهُنٌّ فُتحٌ ونُجهِزُ ماءَهَا السَّدِمَ الدَّفِينَا