الإبداع والابتكار هما قدرات فطرية وملكات فكرية فردية، غير أنه بالإمكان تنميتهما وتطويرهما من خلال تطبيق خطط ممنهجة لتحقيق أقصى استفادة منهما، والتعامل مع التفكير الإبداعي، باعتباره أحد الروافد المهمة لتنمية الموارد البشرية، يسهم في تطوير الدولة وتنميتها، وذلك بدلاً من ترك المواهب الإبداعية متناثرة على نحو فردي لا تسهم في تحقيق استفادة فعلية منها، والإبداع في غالبية الأحوال يتخذ صورتين؛ وهو إما ابتكار فكرة ما من الأساس لم يكن لها وجود من قبل، أو تطوير فكرة قائمة بالفعل ونقلها لمدى أبعد وأفضل. من السهل فقد المواهب والقدرات الإبداعية داخل البيئات التي لا تساعد على تشجيعها، فهي أشبه ما تكون بالومض المشتعل الذي يسهل أن يخبو في لحظة من الزمن، ما لم يتم احتواؤها داخل بيئات مشجعة ومساعدة في تطويرها، والبيئة المثلى لتطوير المواهب الإبداعية تبدأ من مرحلة الطفولة؛ بحيث يتم تصميم المناهج التعليمية على نحو يساعد على اكتشافها وتطويرها لاحقاً، ومن المعروف أن التوجهات التعليمية الحديثة -التي تم تطبيقها فعلياً في غالبية الدول ومن ضمنها المملكة- بدأت في الاهتمام بتطوير المناهج الدراسية لتعتمد على الفهم والاستنباط بدلاً من التركيز على الحفظ والتلقين. ولكن بخلاف تصميم المناهج الدراسية بطريقة تفاعلية تصقل قدرات وإمكانيات الطلاب، يمكن تصميم مناهج خاصة بتطوير الفكر الإبداعي تحت مسمى «رياضة التفكير»، وتبدأ من مرحلة مبكرة للغاية، كمقرر دراسي إلزامي مثله مثل دراسة اللغة العربية والرياضيات والعلوم وغيرها، يكتسب خلاله الطالب فهم أشكال وأنماط التفكير الإبداعي، مثل التفكير الناقد والتفكير المنطقي والتفكير التحليلي، ويتم من خلال تصميم وإعداد مواقف افتراضية مختلفة، ليتم تدريب الطالب على ممارسة طرق التصرف المختلفة إزاء كل منها. الهدف من هذه المناهج هو مساعدة الطلاب على تنمية التفكير الإبداعي، والانتقال من مرحلة التفكير الأساسي التي تضم مهارات الحفظ والفهم والتطبيق، إلى مرحلة التفكير المركب التي تتكون من مجموعة من عمليات التفكير المعقدة، التي تضم مهارات التفكير الناقد ومهارات التفكير الإبداعي، وصولاً لمرحلة حل المشكلات وصنع القرارات الملائمة والتفكير ما فوق المعرفي، وفي الغالب تتكون هذه المناهج الدراسية من مجموعة من الأنشطة المختلفة التي تحث الطلاب على التعلم الذاتي، والبحث عن المعلومات دون انتظار الإرشادات المباشرة، وصولاً لمرحلة القدرة على عرض المشكلات تمهيداً لحلها. وفي الغالب يتم تدريس هذه المناهج بطريقتين متكاملتين؛ الأولى يتعلم فيها الطالب مهارات التفكير من خلال عدد من الدروس المخصصة لهذا الغرض فحسب، وتكون في صورة أنشطة مختلفة (كمطالبة الطالب بوضع عناوين للقصص أو إكمال النهايات المفتوحة لها على سبيل المثال) ويكون المحتوى المعرفي هنا لا علاقة له بالمواد الدراسية المقررة عليه، أما الثانية فتتم من خلال دمج مهارة التفكير في محتوى دراسي محدد يهدف لإحداث نمو تدريجي في مهارات التفكير لدى الطلاب، وذلك من خلال تطبيق عدد من الإجراءات والممارسات المتتابعة، وبالتالي يتم إحداث اهتمام متوازن ما بين فهم المحتوى الدراسي وتعلم مهارات التفكير في نفس الوقت. العقول المبدعة هي الاستثمار الحقيقي في مستقبل أي وطن وهي ثروته الحقيقية، ومنذ سبعينات القرن الماضي تنافس الكثير من العلماء في العالم الغربي لتصميم برامج مخصصة لتعليم مهارات التفكير، فمنها ما تخصص في تعليم الطلاب طرف تفكيك التعقيد الذي يميز بعض المشكلات ويؤدي للارتباك، كالمشكلات التي يكون لها أكثر من سبب، ومنها ما تخصص في تدريب الطلاب على التفكير الخلاق، وآخر اعتمد على اكتشاف المواهب غير المحددة، وقد اهتم كل برنامج منهم بمرحلة دراسية وعمرية معينة، منها ما هو عام ومنها ما هو مخصص للمرحلة الابتدائية فحسب، أو المرحلة الثانوية فحسب، غير أنها جميعاً هدفت لتنمية التفكير الإبداعي وتعلم التفكير المنتج من خلال ربط الظواهر بعضها ببعض. تعليم مهارات التفكير على هذا النحو الإبداعي يتماشى مع التوجهات الحالية لوزارة التعليم التي تهدف إلى إعداد مناهج متعلقة بالتفكير النقدي والفلسفة، بهدف تنمية قيم حرية التفكير والتسامح ونبذ التعصب الفكري، والتي أيضاً لن يكتمل غرسها وترسيخها إلا من خلال تضمين مقررات دراسية متخصصة معنية بتدريب الطلاب على ممارسة مهارات التفكير النقدي الإبداعي، والتي يمكن تضمينها داخل المناهج الدراسية تحت مقرر بعنوان «رياضة التفكير» وذلك خلال جميع المراحل الدراسية، ليسهل غرسها داخل النشء صغير السن، الذي يغدو عند نضجه مسلحاً بقواعد التفكير المنطقي الصحيح ومتمتعاً بالتفكير الإبداعي الخلاق، مما يعني وقايته من أخطار التفكير المتطرف وحماية مستقبل الدولة ككل من الإرهاب والسلوكيات غير المقبولة. كاتب سعودي Prof_Mufti@ [email protected]