تُركّز الإستراتيجية الشاملة للتعدين والصناعات المعدنية، في المملكة العربية السعودية، التي تُمثّل ثمرةً من ثمار رؤية المملكة 2030، على تعظيم القيمة التي تُحققها المملكة من مواردها المعدنية الطبيعية، وذلك من خلال الاستغلال الأمثل للثروات المعدنية، وتطوير الاستثمار التعديني، ليصبح قطاع التعدين والصناعة التعدينية الركيزة الثالثة في الصناعة السعودية بجانب صناعتي النفط والبتروكيميائيات. وتهدف هذه الاستراتيجية إلى زيادة إسهام قطاع التعدين والصناعة التعدينية في الناتج المحلي الإجمالي، والعمل على توليد الوظائف وتنمية القدرات البشرية الوطنية، وجذب الاستثمارات الوطنية والعالمية إلى هذا المجال الواعد. وهي أمورٌ يتم العمل على تحقيقها اعتماداً على ثلاثة عناصر هي؛ توفر الموارد المعدنية، وحجم الطلب المحلي على المنتجات التعدينية، وتنافسية تكلفة الإنتاج. وقد أظهرت الدراسة الأساسية للوضع الراهن أن إسهام قطاع التعدين والصناعة التعدينية في الناتج المحلي الإجمالي بلغ 64 مليار ريال، في عام 2015م، جاء معظمها من صناعات الصلب والأسمنت، ومن سلاسل قَيِّمة أخرى مثل الألومنيوم والفوسفات. بينما بلغت إيرادات الدولة من التعدين 4.9 مليار ريال، وبلغ عدد الوظائف المباشرة وغير المباشرة في القطاع 150 ألف وظيفة، معظمها في الصناعات الوسيطة والتحويلية. لذلك تسعى إستراتيجية التعدين إلى رفع إسهام هذا القطاع في الناتج المحلي الإجمالي إلى 240 مليار ريال، ورفع إيرادات الدولة منه إلى 13.9 مليار ريال، وكذلك توليد 219 ألف فرصة وظيفية جديدة بحلول عام 2030م. ومن أهم المبادرات التي أُطلقت لتحقيق أهداف إستراتيجية التعدين؛ «البرنامج العام للمسح الجيولوجي»، وهو المبادرة الأحدث لهيئة المساحة الجيولوجية السعودية، حيث يهدف هذا البرنامج، على مدى السنوات الست القادمة، إلى إجراء دراسة شاملة لمساحات شاسعة في المملكة، من خلال سلسلة من المسوح الجيوفيزيائية الجوية والجيوكيميائية المكثفة، وإنتاج الخرائط الجيولوجية لتلك المواقع. وذلك لفتح الباب واسعاً أمام فرص استثمارية وفيرة وواعدة في مجال التعدين. وتصل تكلفة هذه المبادرة الطموحة إلى نحو ملياري ريال، وستتطلب تعاوناً وثيقاً مع خبراء دوليين مؤهلين تأهيلاً عالياً من جميع أنحاء العالم. وترى هيئة المساحة الجيولوجية السعودية أن التعاون العلمي مع الجهات الوطنية والدولية هو من أهم أولوياتها. وقد انعكس هذا على نشاطاتها، منذ إنشائها وحتى بداية عملها على تطوير هذا البرنامج الحيوي. ولا تهدف هيئة المساحة الجيولوجية السعودية إلى إنشاء بنك معرفي يوثّق الثروات المعدنية للمملكة العربية السعودية وحسب، بل تهدف أيضاً للإسهام في توسيع نطاق المعرفة الوطنية والعالمية بعلوم الأرض. ويُبيّن الدكتور وديع بن أحمد قشقري؛ قائد مبادرة البرنامج العام للمسح الجيولوجي أن تطوير هذا البرنامج الضخم تم من خلال دراسة برامج مماثلة، طبقتها مؤسسات دولية أخرى، حيث أسهمت تلك البرامج في تطوير البرنامج العام للمسح الجيولوجي. فعلى سبيل المثال، تمكنت برامج المسوح الجيوفيزيائية الجوية، في الهند وأستراليا وفنلندا، من توضيح الطريقة المُثلى التي يمكن بها تغطية مساحات شاسعة من الأراضي بكفاءة. وقياساً على ذلك، ستغطي المسوح المُختلفة، التي يشتمل عليها البرنامج العام للمسح الجيولوجي، منطقة الدرع العربي، الواقعة في غرب المملكة العربية السعودية، والتي تُقدّر مساحتها بنحو 600 ألف كيلومتر مربع. ويقول الدكتور وديع قشقري: «يعد نموذج العمل التعاوني، وتقديم يد المساعدة والعون، أمراً شائعاً بين الجيولوجيين والمنظمات المعنية بعلوم الأرض؛ لبناء المعارف المشتركة في ما بينهم. ومن خلال الاطلاع على الكيفية التي أجرت بها المؤسسات أعمال المسوح الجيولوجية، وسنتمكن، بإذن الله، في البرنامج العام للمسح الجيولوجي، من الحصول على كمٍّ هائل من المعارف والمعلومات في مدة زمنية وجيزة نسبياً». وتقضي الخطة الموضوعة للبرنامج العام للمسح الجيولوجي بإكمال المشروع في إطار زمني مدته ست سنوات، وهو أمرٌ يُمكن استيعابه إذا أدركنا أن من الأهداف الرئيسة للبرنامج؛ الإسهام في جذب الاستثمارات الوطنية والعالمية إلى قطاع التعدين والصناعات التعدينية، بالإضافة إلى خدمة برامج الاستكشاف في المجالات الجيولوجية الأخرى. وسيتم تنفيذ كل مرحلة من مراحل البرنامج العام للمسح الجيولوجي، على مدى السنوات الست القادمة، من خلال التعاون بين الفريق الفني الوطني في البرنامج، المكون من حوالى 500 شخص، والذي سيعمل، جنباً إلى جنب، مع الخبراء التقنيين العالميين، والشركاء المتعاقدين من بلدان مختلفة، من بينها فنلندا، والصين، والمملكة المتحدة، وجنوب إفريقيا، وغيرهم من المتخصصين الجيولوجيين من جميع أنحاء العالم. وكمثالٍ على برامج التعاون والشراكة الأخرى التي تتبناها هيئة المساحة الجيولوجية السعودية، وقّعت الهيئة، في عام 2017م، مذكرة تفاهمٍ مع المؤسسة النووية الوطنية الصينية لتعميق برامج استكشاف اليورانيوم والثوريوم في المملكة. حيث جسّدت هذه الشراكة أهمية تبادل الخبرات، والتعرّف إلى أفضل الممارسات المطبقة لاستخراج تلك المعادن القيّمة، من خلال برنامج بحث مدته عامان. وحول أهمية الشراكة مع الخبراء والمتخصصين العالميين، يقول الدكتور وديع قشقري: «تهدف هذه الشراكات الفنية والتقنية إلى حصول المملكة على أعلى مستوى من الجودة، في ما يخص النتائج التي تُعنى بعلوم الأرض، وكذلك ضمان تطبيق أفضل الممارسات العالمية. حيث تشمل مهمات شركائنا، على سبيل المثال لا الحصر، توفير بيانات عالية الجودة عبر المسوح الجيولوجية، والإشراف على كل مرحلة من مراحل تنفيذ البرنامج، وتقديم الإرشادات والاستشارات بشأن القرارات الفنية، ومساعدة الفريق الجيولوجي السعودي على تحديد أطر العمل ومجرياتها. وفي حال ظهور تحديات فنية، سيكون لهؤلاء الشركاء دورٌ في تجاوزها». وبالإضافة إلى ذلك، ستتمكن هيئة المساحة الجيولوجية السعودية، وشركاؤها الدوليون، من خلال هذا التعاون وتبادل الخبرات، من تطوير قاعدة معرفية عملية، وتنمية قدرات علماء الجيولوجيا السعوديين الصاعدين من خلال البرامج التدريبية. ويعد بناء هذه القاعدة المعرفية القوية مفتاحاً أساساً لفهم إمكانات قطاع التعدين في المملكة. وبفضل هذا التوجه التعاوني المنفتح، تمكنت هيئة المساحة الجيولوجية السعودية من استقطاب الخبراء والجيولوجيين، محلياً ودولياً، الراغبين في استكشاف ودراسة المشهد الجيولوجي السعودي. يقول الدكتور وديع قشقري: «بفضل الشراكات الفنية والخبرات العالمية المكتسبة، وهذا التعاون واسع النطاق مع الخبراء من أنحاء العالم، سنتمكن، إن شاء الله، من استكشاف الثروات الطبيعية المخزونة في باطن الأرض، كما ستتاح لنا فرص رائعة لتدريب الجيولوجيين وعلماء الأرض السعوديين، وستُسهم الطبيعة الجيولوجية الفريدة من نوعها، بدورٍ محوريٍ في دعم هذا التعاون واجتذاب المزيد من الخبرات والمعارف إلى قطاع التعدين السعودي».