يرى الدكتور صغير العنزي المتخصص في الأدب والمعني بالنقد الثقافي في أدب المهمشين والاهتمام به وإبرازه خلاصاً ممكناً من الأوهام التي تعيشها العقول، لأنّ الكثير من التصورات التي نحملها في عقولنا حتى هذه الساعة ما زال العقل الجاهلي متحكماً فيها. العنزي مهتم بالمرأة وقضاياها، ولكنه في الوقت ذاته يحارب النسوية لأنه كما يقول يمقت التطرف أيّاً كان. الكثير من القضايا والآراء في الحوار التالي: • دعنا نبدأ من العادات والتقاليد، لماذا تعتقد أنها لا تساعد على تحقيق إنسانية الفرد ولا الرقي بالجماعة ؟ •• عاداتنا فيها الجميل والإنساني النبيل الرفيع، وكذلك فيها السلبي والضارّ الذي يقف عائقاً أمام التقدم والرقي، ويُحتَج به، فيصبح معول هدم وتقويض، وفيها ما يجرح كرامة بعض الفئات الاجتماعية، ويصنفهم طبقات أقل إنسانية، وفيها ما يصنع الشخصية المزيّفة، ويبارك نفاقها، فتكون أفعالها خاضعةً للرقيب أكثر من كونها نابعة من قناعة وثقة إلخ.. والخطأ أن نضع قائمة العادات والتقاليد في سلة واحدة، وندافع عنها دون مساءلة وتمحيص، أو أن نذمها جميعها دون إنصاف وتبصّر. عموما: العادات والتقاليد هي أساس أزمة الأديان التاريخية، فمثلاً ستجد اختلافاً كبيراً بين أساس الإسلام التأسيسي في عهد النبوة والإسلام التاريخي (إسلام الرجال) الذين تمكنت العادات والتقاليد من الولوج إليه عبر التأويل والنص المصنوع والنص المستعان به من الأديان الأخرى في نسختها التاريخية، هذه النسخ الممتلئة بأثر عادات الشعوب ربما تصبح، بكل ما فيها من سلبيات، هي النسخة الأصلية، فتُغيّب كثيراً من ملامح صورة الدين الأولى، وهذا يحتاج إلى تفصيل لا تتسع له مساحة اللقاء. • لماذا المرأة بالتحديد تعدّ واحدة من أهمّ قضاياك التي تكتب عنها ؟ •• لأنها جزء مني وأنا جزء منها، وحين نزيح عن بصيرتنا غشاء الوهم، وندرك أن الثقافة سلبتها كثيراً من معالم إنسانيتها، فمن الطبيعي أن نقف مع قضيتها، وأن تكون وقفتنا بحجم مأساتها. وأنا أرى أن موقف الثقافة منها (مأساة) فعلاً، وصورة من أبشع صور الاستعمار والسلب، كل ما في الأمر أن تغييم بعض المشكلات الإنسانية يكون أشد من أن تضيئه نور الشمس، وحين ندركه -ولو متأخراً- يكون حماسنا له بقدر ما فاتنا من نصرته، وبقدر ما انتبهنا له من تبعاته ومآسيه. قد يرى آخرون أنني أُولي القضية أهميةً، بينما أعدُّ نفسي حتى هذه اللحظة مقصراً جداً، ومتواطئاً يحاول أن يلج باب التطهر، فيقدّم رجلاً ويؤخر أخرى، ومصافحتي لها لا تزال على استحياء، فشجاعتي الأدبية تخونني في قول ما يجب قوله، مثلما يخذلني سلوكي على أرض الواقع، فأقع دون أن أنتبه في حمل الخنجر وغرسه في صدر كرامتها لفظاً وفعلاً. سؤالك يوحي أنني مناضل في سبيل قضيتها، بينما لا أزال أرى نفسي أحد الجناة، خاصة أنني من المشغولين في قضايا المهمشين منذ أكثر من عقدين، ولم أتفطن لها إلا قبل سنوات. • كيف لحامل الدرجة العلمية أن يكون منافقاً ؟ •• عندما لا يصون عقله البحثي، عندما يغدر بكل المبادئ الرفيعة التي تعلمها، وحين يؤمن بأن (نعم) هي الطريق الممهد إلى نيل مطامعه الشخصية ووصوليته، وحين لا يكتفي ب(نَعَمه)، فيشيع أن (لا) لفظة قدح وإشكال ومعارضة سلبية في داخل مؤسسته وخارجها، وهو منافق، أيضاً، لحظة اقتنع أن درجته العلمية درجة وظيفة لا رسالة نبيلة تستحق التضحية. ولهذا فقد أصبحت ظاهرة القرارات التي (وافقوا عليها بالإجماع) هي السائدة، وقلَّ وجود المعارضة الإيجابية. • لماذا تغيرت بيئة الجامعات لدينا ؟ •• لفقدان بعضها كثيراً من مبادئ رسالتها، وتحول بعض قاعاتها إلى منصات تلقين وحشو، ولتغير رؤية بعض الأكاديميين وتطلعهم المحموم إلى المناصب، خاصة في بعض الجامعات الناشئة التي تكون فيها فرصة تولي المناصب مهيأة لمن يحصل على الدكتوراه (في سنته الأولى)، ممن لم يملك الخبرة الكافية، ويأتي الآخر في ظل رؤيته زميله وصديقه يحتل منصباً فيها، فتتوق نفسه إلى نيل مثله، ومع تزاحم الصور تصبح ظاهرة، والظاهرة حين تصبح مشهداً متكرراً تُؤْلَف، والمنظر المتكرر كما يقول (أوسكار وايلد) لا يثير الانتباه، وهنا، تبدأ سرقة الأكاديمي من أكاديميته، إلى درجةٍ يسود معها ضرورة الترقية التي تكون على حساب الجودة، خاصة حين يكون هدف الترقية عند بعضهم أن منصباً معيّناً يحتاج إلى درجة علمية تناسبه، فيكون ركض هذا الأكاديمي في بحثه، طمعاًفي أن ينجز قبل أن يشغل ذلك المكان. وفي مثل هذا الزحام تبدأ البيئة الأكاديمية في تأبين روح الباحث الجاد، كما أنه من الطبيعي أن تتخلى عن شيء من إنسانيتها وحميمية علاقاتها، فالتنافس الوصولي باهظ الثمن. • لماذا يريد طلاب العلم الشرعي لمجتمعنا أن يكون صحابياً أكثر من الصحابة وتابعياً أكثر من التابعين ؟ •• لأن بعضهم ضحية ثقافة مثالية حالمة، يعني ضحية وَهْم، وهُمْ أول ضحايا هذا الفخ، يطالبون الناس بمثاليات كبرى، ويحاسبونهم على أقل أخطائهم، وربما نفوهم بسبب زلاتهم الإنسانية من الفضيلة في الدنيا والجنة في الآخرة، وقد خدّر غطاء القداسة الذي سيجوا به أنفسهم في بداية الصحوة بصائر الناس في أن تكشف (بشريّتهم)، أخطاءهم، تناقضاتهم عند التطبيق، فلما مضت السنوات، تلفّت المتلقون إلى ما بين المقول والمُطبَّق، ووجدوا بشراً يقع في هفوات يُجرِّم عليها، فأساء ذلك إلى صورتهم، وكما هو الدائر الآن، فالخطاب السائد انتقل إلى الآخر الذي صار يحاسبهم بقدر ما كانوا يحاسبونه. هذه الأوهام سببها بعض شيوخهم الذين أوحوا لهم أن مجتمع الصحابة والتابعين شبه معصوم، وهم وإن لم يحولوا واقعاً بين المتلقي وقراءة صورة ذلك العصر، فقد أسهموا في انتقاء وجهٍ واحد من وجهي الصورة، وروّجوه، والناس -في الجملة- تنطبع عندها الصورة الأولى المشاعة. ولهذا جاءت ردة الفعل خلاف ما يتوقعون، فقد كان المجتمع يركض ركضاً إلى الخلاص من عقدة (التأثيم) التي زرعوها فيه، ومن جحيم (التقصير) الذين طاردوه بذنبه. • كيف تحوّل التلميذ لدينا من طالب علم إلى تابع ؟ •• عبر صناعة الشيخ (الصنم) وتطهيره، وتقديس أقواله، ونقل صور خضوع التلاميذ في العصور الأولى للشيوخ، وفي تسميم لحم الشيخ تسميماً يوحي بأن لحم غيره أخف إثماً منه. ترقية الشيوخ خارج المنزلة البشرية كانت هي أزمة بعض الأمم السابقة التي حذر منها القرآن، وهي أزمة الأمة بعد قرونها الأولى، وهي سبب تبعية التلميذ الذي يرى قبلة جبين شيخه، وطاعته المطلقة طريقاً إلى الجنة أكثر من عمله أحياناً، فتحول من طالب علم باحث إلى تابعٍ مُنَوَّم. • هل نحن مجتمع مثالي ؟ •• في أوهام بعضنا نعم، نحن الأكرم، والأشجع، والأعلى قيماً، والأنقى نسباً، والأكثر إنسانية، وكل فضيلة من هذه الفضائل لا تحدث بمعزل عن الآخرين، وإنما كل علوّ لنا -في نظر بعضنا- يسحب من رصيد الآخرين، فأمجادنا لا تكتمل إلا بنقصهم. • متى نكون أسوياء ؟ •• حين يدرك بعضنا أننا مجتمع بشري له ميزاته الرائعة، وإنسانياته العظيمة، وله أيضاً نقائصه وأخطاؤه، والوعي الذي لا يدرك قراءة هذا، فلن يدرك سلّم الارتقاء، لأن التقدم -في أحد جوانبه- هو ملاحظة وجوه القصور والخلل وتلافيها، ومن يظن ورمه شحماً، لن يدرك مرضه، وسيقتله ما يراه سبباً في صحته. وحين نرى النقد اكتشافاً لخلل يجب إصلاحه، لا أن نراه انتقاصاً لنا، أو جلداً لذواتنا، فالفضيلة واعية، وليست حمقاء. • متى تكون الشهادة العليا حبراً على ورق ؟ •• الشهادة العليا تكون حبراً على ورق حين لا تصنع من صاحبها وعياً مختلفاً، حين لا يكون له رأي مستقل، حينما لا يُؤْمن هو نفسه بما قادته إليه أبحاثه من موضوعية وحيادية، وحين يرى رضا المسؤول عنه أهمَّ من رضاه عن نفسه. • ما مواصفات المثقف المشاغب الذي تثق به أكثر من ثقتك بالمثقف المسالم ؟ •• الذي يقول ما يؤمن به، ولا تنتظر كلماته نظرات الآخرين، ولا يسجنها غضب الجماهير منها، الذي لا يتسول الأكفّ لتصفق لما يقول، ولا يخشى عتب من لم يوافقه، الذي يعرف أن رأيه قد يفرده إفراد بعير طَرَفة، فيقوله ثقة بقيمة كلمته عنده، وإيماناً بأن مبادئه أسمى من أن تشتريها الهتافات أو يغريها الضوء. وأنا لا أقصد، هنا، أن يكون متهوراً مندفعاً، وإنما أعني أن تكون كلمته حرة نبيلة جريئة، فالعبودية للجماهير لا تختلف عن العبودية للطغاة، واستبداد الجماهير، في هذا العصر، أشد وطأة من استبداد الدكتاتوريين. • هل لدينا وطنيون يستغلون وطنيتهم لتصفية حسابات خاصة ؟ •• الوطنيون ليسوا انتهازيين، فالوطنية أسمى من أن تكون نفعية أو مرجفة أو استغلالية، لكن هناك من وجد في الانتساب إلى الوطنية منبراً لحضوره، كما تُستَغل منابر الحضور الاجتماعي في كل ظرف مناسب، كحال بعض من ينتسبون إلى الدين في زَهْو حضورهم إلخ...وهؤلاء الانتهازيون الجدد لجأوا إلى تحقيق أهدافهم المغرضة من خلال (عصا) الوطنية، فقاموا بتصفية حساباتهم الشخصية مع مخالفيهم، في وسائل التواصل الاجتماعي، على أن هذه القضية شائكة ودقيقة جداً، فهناك خصوم للوطن فعليون يتهمون كل من يكشف أقنعتهم بالشخصنة، وقد استغلوا أخطاء هؤلاء الدخلاء، لتمرير مخططاتهم، وتشويه المخلصين الذين يكشفون مؤامراتهم ودسائسهم. • تدافع عن المرأة وتنتصر لها، لكنك في الوقت ذاته تهاجم النسوية.. لماذا ؟ •• أنا ضد (التطرف) بغض النظر عن هوية المتطرف وجنسه، وحين أنقد فأنا لا أعمم، وإذا أردت أن أكاشف فنقدي يكون مُقنناً ضد (التطرف الذكوري)، (التطرف النسوي)، (التطرف الديني) إلخ...وقضية المرأة قضيةٌ إنسانية عادلة لا علاقة لها بالتطرف، كما أن المتطرف -بغض النظر عن جنسه- هو ضد هذه القضية، وإن توهم أنه معها، فالتطرف تقويض وهدم وتدمير، والمتطرف لا يبني ولا يساهم في بناء. والحلول التي ترى عزل جنس الرجل عن جنس المرأة حلول متطرفة؛ لأن فصلهما يعني فناء العالم، وقطع النسل، وموت الرغبة، وإيقاف تكامل الجنسين، وهذا لن يكون! وجعل الحلّ موجهاً إلى صناعة عداوة بين الجنسين قرار منفعل لا يبصر، فكم نسبة النساء اللواتي سيستجبن له، فتنكر الأخت أخاها والابنة أباها، والأم ولدها؟ القضية العادلة تحتاج إلى حلول عاقلة، وإن كان هناك حالات تطرف نسوي، وهو قليل؛ فلأنَّ المتطرفة فكّرت من خلال البناء الذهني نفسه، ذهنية الذكورة المتطرفة. • لماذا هاجمت كوثر الأربش ؟ •• هل هاجمتها؟ أم وقفت ضد هجومها، أو ما أتصوره هجوماً منها؟ هذه مسألة تحتاج إلى تدقيق، ولا أستطيع البتَّ فيها، لأنني أحد أطراف القضية. أما موقفي من طرحها فقد كان لأسباب عدة، منها: - التوقيت الخاطئ لاشتداد موقفها في ظرفٍ تزامن مع حسابات استهدفت موضوع المرأة وسعت إلى تشويه وجاهة قضيتها؛ حين أدركت هذه الحسابات الرؤية الإصلاحية الجادة للدولة تجاه حقوق المرأة وملابسات وضعها، ومن هذه الحسابات (نيزك) وغيره ممن كان يعمم تطرف النسوية ولا يؤطره، ويضع وجهات نظر المرأة تجاه قضيتها تحت بابه. - شيء من التعميم الذي كان يخالط طرحها، وإن كانت تصرح أحياناً بأنها ضد النسوية المتطرفة، لكن النسوية المتطرفة عندها ملتبسة وغير مؤطرة عند التطبيق. - تزامن طرحها مع حضور إعلامي متنوع يعمم الحديث عن تطرف النسوية، ثم يخلط بين النسوية المتطرفة ووجهات نظر المرأة من حقوقها خلطاً عجيباً ملبساً. - ثم أمرٌ آخر لا يقل أهمية، فقد كانت تتحدث عن تطرف النسوية ضد الذكور إلخ...وكان لي وقتها سؤالان: أولهما: هل يفوتها حجم تطرف الذكورة ضد المرأة، وما تعانيه النساء من السلب وترتبات النظرة الدونية؟ وثانيهما، هل حماستها ضد النسوية قابلتها حماسة مثيلة في موقفها من قضية المرأة، وإيقاف نزيف التطرف ضدها؟ كانت إجابة السؤالين تدفعني دفعاً إلى أن أرد على موقفها. • مشكلة المرأة لدينا كما تقول ثقافية.. هل من توضيح ؟ •• نعم، مشكلة المرأة ثقافية قبل أي شيء آخر، وهي نتاج صورٍ متراكمة، وهيمنة ولدتها ظروف حقبٍ تاريخية، ثم تحولت إلى مُسلَّمات لا تُساءل، فما نسميه (طبيعة) المرأة، و(صفات) المرأة، ليست (طبيعتها) ولا (صفاتها)، فالمرأة المُدانة بضعفها وسلبيتها عبر العصور صناعة ذكورية، وما تطرف من النسوية في هذا العصر نسخة أخرى لذكرٍ متطرف، لا تختلف عنه إلا في بعض معالم الجسد. المرأة الفعلية هي الآن في لحظة الحضانة، توشك أن تكتمل، أو بلغة أدق: هي في مرحلة استعادة ذاكرةٍ مفقودة مستلبة، وتوشك أن تستعيدها. إذن، قضية المرأة ثقافية، وما يشاع عن نقص جسدها أو غيره محض أوهام، ومشكلتها الفعلية مع (ثقافة الذكر) لا مع (جنسه)، وأي اشتغال ضد (الذكر) لا ضد (ثقافته) مضيعة للوقت لا تنتج إلا تشنجات مجانية لا تخدم القضية. • هل الطفولة منقصة ؟ ولماذا يغضب ابنك حينما تشير إلى طفولته ؟ •• الطفولة مرحلة زاهية، طاهرة، نبيلة، لكنها لا تملك لساناً مجادلاً ولا عضلات مفتولة، ومن هنا شوّهتها الثقافة وجعلتها مضرب مثَلٍ للضعف وقلة العقل والطيش، وفي ثقافة القوة: كل من لا يملك لساناً مُحاجّاً، وذراعين مغالبَين يصبح عرضة للتشويه وصناعة الصور المزيفة عنه. • الدكتور مرزوق بن تنباك يرى أن الصحوة دفنت.. هل ترى غير ذلك ؟ •• إذا كانت الصحوة قد دفنت بهذه السرعة، فقد ظلمناها فيما نزعمه عنها من التأثير وشدة الفعل، وإذا كانت الصحوة قد انتهت، فعندنا مشكلة كبيرة، فكأنما نحن قشة في الهواء يسهل العصف بها مع أقلّ ريحٍ تهب! • إذا كان الدكتور يرى الصحوة جسداً، فنعم، قد توارى أكثره، أما إذا كان يراها فكراً، فهل يعقل أن يُمْحى الفكر في فترة محدودة ؟ •• مشكلة الصحوة أنها فكرٌ استعان بسطوة المقدس، فتمكن من العقول والنفوس، وستجد أثره عند غير الملتزم قبل أن تلحظه عند الملتزم! الصحوة تحتاج إلى سنوات تقارب عمرها الذي تمددت فيه ليزول أثرها. تأمل بعض تغريدات الهاشتاقات الغاضبة من الترفيه المتاح قبل الصحوة، ولك أن تحكم. • هل لدينا مشكلة في كتب تاريخ الأمة والخلافة التي تُدرّس لطلابنا ؟ •• مشكلتنا الانتقاء، ومحاولة إظهار جيل القرون الأولى مثالياً، وحجب جانب من صور تاريخ الأمة، هذا الحجب لا يعني تغييب جزء من الحقيقة وحسب، وإنما يغرس العجز في نفس المتلقي؛ لأنه يصور له بشراً لا يخطئون، وجيلاً لا ينتابه قصور البشرية، ولا يزلّ، وهذا بطبيعة الحال فوق بشرية المتلقي الذي يشعر بالغبن والإحباط من مقاربة الصورة العليا المرسومة، فيهزم داخلياً إلخ...هذا غير ما سوف يكتشفه من تزييف الصور وتزوير الحقائق حين يفتح أيّ كتاب تاريخي قديم دوّن حياة تلك الحقبة. • ترى أنّ الهياط اهتزاز وانهيار فيما يرى غيرك أنّ الهياط جزء من تكوين الفرد في مجتمعه وربما تحوّل مع الوقت لفخر.. هل من فرق ؟ •• الهياط انتفاخٌ مرضيّ، مبني على الوهم والتخيلات المغالطة، وتضخيم الصور، وإلغاء الآخر، وعدم إبصار نقائص الذات، فالذات فيه ضعيفة الثقة بمنجزها الفردي، وكثيراً ما تفر إلى الاستعانة بالمنجز الجماعي، والفخر المبني عليه واحدٌ من معطلات الوعي. وموقف الإسلام منه جليٌّ، ومن تأمل النصوص الدينية في هذا الجانب، فلن تفوته، لكن المهايطيّ ونصير المهايطيّ لا يبصران أو لا يودّان أن يبصرا هذه النصوص. • لماذا كلّ تجديد لدينا متّهم، وكلّ محاولة تغيير متربص بها ؟ •• هذا سمت العقل الجاهلي الذي ندّد به وبأهله القرآن الكريم، وهو متحكمٌ في تصوراتنا حتى هذه الساعة، فكل جديد يعني تهديداً وخطراً متربصاً بنا، حتى إن (العقل) في ثقافتنا يعني حسب تعريف بعض الباحثين «طائفة من (المستقرات والأعراف) الفاعلة في الأنساق الثقافية والحضارية المختلفة. ويكون الاقتراب منها وإعمالها؛ اقتراباً من العقل وإعمالا له. ويكون صاحبها عاقلاً بقدر ما حقق احترامها وتقيد بها؛ وبقدر ما تجاهلها وخرج عنها فلا يستحق هذا الوصف، ولو كان داهية أو عبقرياً»، فالخروج عن المستقر هو عمل ضد العقل، وهنا الأزمة. وهي الذهنية نفسها التي عبثت بفهم (البدعة) و(المبتدع) وجعلتها حرباً على كل جديد. • هل نحن وحدنا من نصنع نماذجنا غير المرغوبة وننفخ فيها ثم نحمّلها المسؤولية ؟ •• لا، لسنا وحدنا من يصنع ذلك، وكلّ خطأ عندنا ستجد له مثيلاً في مجتمع شرقي أو غربي أو أكثر، لكن هل وجود مرضٍ جسدي عضال عند مجتمعات أخرى يبرّر فرجتنا على مرضٍ موجود عندنا حتى يستشري ويفتك بالجسد؟ إذا كان وجود مرض جسدي في مجتمع آخر مبرراً لعدم علاجه عندنا، فالأمر يسري كذلك على أمراضنا الاجتماعية. • لديك مشكلة مع تجميل الأفكار التي لم تقع.. لماذا ؟ •• لأن تجميل الأفكار تمهيد إلى قبول تطبيقها وترويض للنفوس لاستساغتها وعدم النفور منها، وقد تحدثت في هذه النقطة تحديداً عن تجميل الحطيئة فكرة التضحية بالطفل، وقد غضب كثيرٌ من رأيي دون أن يمنحوا أنفسهم سؤالاً حول إنسانية هذه الفكرة، ولماذا استدعاها الشاعر؟ الشاعر العربي حين يفتخر لا يستدعي ما يُشجب عليه، وإنما ما يُحتفى به، ومن يقرأ التراث الجاهلي جيّداً يعرف مأساوية الطفل في تلك الذهنية، وسهولة تضحية والده به، والتضحية بهذا الضعيف لم تأت لولا تجميل الأفكار المتطرفة. • لا ترى الوأد خرافة كما رأى الدكتور مرزوق بن تنباك، كيف تدافع عن رأيك هذا أمام رأي الدكتور ابن تنباك ؟ •• الدكتور مرزوق بن تنباك - مع تقديري لشخصيته النبيلة فعلاً، ولروحه العالية، ولفضل علمه- جاء في كتابه (الوأد عند العرب) مغايراً لمنهجيته الدقيقة في الطرح، فالكتاب يعاني من ثغرات منهجية تخل بموضوعية البحث، منها: - بنى فكرته في زعزعة استقرار حادثة الوأد على فرضية ذهنية (متوهّمة) عن أنّ (الموءودة) لفظة غير مستقرة المعنى ولا حاضرة في ذهن معاصريها، ونقول (متوهّمة)؛ لأننا لا نعثر لديه على مستند علمي يقوم على أساسه عدم استقرار هذا المعنى عندهم. - يفترض المنهج أن يبدأ الباحث بالنصوص الأصل، والمدونة المكتوبة، وفي أساس مرجعية الفكر العربي والإسلامي، أقصد الآيات التي أشارت إلى الوأد، ثم الأحاديث النبوية ومناقشتها، ثم النصوص الشفاهية الحافة بالنصوص الأصيلة، لكنه قلب المعادلة، فعمد إلى روايتين شفهيتين تعرضتا للزيادة والمبالغة بطبيعة شفهيتهما، فأدار عليهما نصف كتابه، وأوحى إلى قارئه أنهما هما الأصل الذي يقوم عليه الوأد، وأنه بنقضهما ينقض الفكرة من أساسها، فهيأ القارئ مبكراً لقبول رأيه في النصوص الدينية، ولو وضع النصوص موضعها ورتبها ترتيباً منهجياً، فبدأ بالنصوص الأصل، لضعف موقفه. - أهمل نصوصاً كثيرة، منها نصوص مدونات الأمثال التي تتحدث عن وأد الأنثى مثلما تحدثت عن وأد الذكر. - تباين في منهجيته من موقفه من النصوص، فكان يحاول نقض النص الصحيح الذي لا يوافق رأيه بكل جهده، ويمر دون تمحيص على النص الذي يدعم وجهة نظره، وإن كان موضوعاً ومختلقاً. - اعتمد على رأيه الشخصي في التعامل مع النصوص الدينية دون أن يكون لرأيه مستند قوي يدعمه. - ثم الأهم: هو لم ينكر الوأد في كتابه، بل اعترف به، لكنه توصل -من خلال ظنونٍ وآراء شخصية- إلى تبرئة الذكر العربي وتحميل الأنثى جريمة الوأد، فكانت هي الوائدة المندد بها في القرآن الكريم.