منذ بدايات القرن العشرين كان مشروع مسألة التراث واستنطاقه، من أبرز الاشتغالات الفكرية للنهضة العربية، وهي مخاضات فكرية ما برحت قائمة إلى وقتنا الحاضر، تبلورت في البداية على شكل عدد من الأسئلة أبرزها سؤال شكيب إرسلان (لماذا تخلف المسلمون وتقدم غيرهم؟). البوابات التي تفضي إلى خزانة التراث لدينا إما البوابة التقليدية المتأبطة مسلماتها المتلحفة يقينياتها، والمستأثرة بالمفاتيح، أو بوابة الاستشراق المثخنة بالمركزية الأوروبية، وهي إن كان لها الكثير من الإيجابيات على مستوى تحقيق المدونات وإعادة الطباعة ولكن يندر بها المشاريع التي تعاملت مع المحتوى الثقافي للشرق بأدوات متخلصة من التصورات النمطية عن المكان وسكانه. البوابة الأخيرة التي أشرعت في خزانة التراث إن كانت صغيرة ومواربة، دخل بها عدد من المفكرين العرب يتأبطون باقة من المدارس الفكرية مثل التأويلية أوالبنيوية أوالتاريخنية وجميعها كانت تسعى إلى قدح أسئلة النهضة، واستنطاق الماضي بأجوبة تثري الحاضر، ومعين يسقي الهوية والكينونة، ويحمي الثقافة من هباء الذوبان والاضمحلال في عالم لم نعد فيه صانعين ومضيفين للمنجز الحضاري العالمي، لاسيما في حضور أصوات تنادي بالقطيعة المطلقة مع التراث. بالنسبة لنا اللحظة التاريخية الراهنة التي تشكل منعطفاً مصيرياً في مسيرتنا، تحتم اتخاذ منظور رؤية يتخلص من تلك النظرة التقليدية الاصطفائية التي مارست الوصاية على الكثير من المكون التراثي الثمين وحجبت مادته الخام المثرية وأبرزت فقط ما يتوافق مع البعد الأيدلوجي السلطوي. ولعل علاقتنا المرتبكة مع التراث هي جزء من دائرة تخلف حضاري أكبر شمولية، وعجز عن بث نسغ الحياة في تلك الغابة التراثية، التي هي جزء من هويتنا وملامحنا وشعورنا ولا شعورنا أيضاً، مما خلق فجوة من الجفاء والنأي بين الأجيال الشابة والخزانة التراثية المكتنزة، ابتداءً من المؤسسة التعليمية، وصولاً إلى الطلائع الشابة ذات النتاج الإبداعي. على سبيل المثال في النطاق السردي لا يكفي أن نشكو من ركاكة وضعف المحتوى على مستوى اللغة والحبكة والأسلوب لدى بعض الإنتاج الأدبي، ولكن ما الأدوار المناطة بالمؤسسات الثقافية لردم هذه الهوة، وتسخير مادة خام مهملة في أمهات الكتب قادرة على صقل أدواتهم والسمو بها عن الركاكة والابتذال الشعبوي وذلك عبر مشاريع توفر سلاسل من الكتيبات والمادة التراثية الجاذبة القادرة على تخصيب الحقول الإبداعية بمحتوى ثمين ومهمل بنفس الوقت، فحكاية (حي بن يقظان) لابن طفيل وعلاقاته بالكون والفناء ومضامين فلسفية تتضمنها الأسئلة الوجودية الكبرى، تحيلنا إلى عقل فلسفي ناضج ومتكامل، هذه القصة التي تنسب لعدد من المؤلفين بداية من (ابن سينا / السهروردي / ابن النفيس) لكنها ظهرت بشكلها المتكامل على يد ابن طفيل الأندلسي. وبقيت متوارية فوق أرفف الإهمال والنسيان، ويبدو أن أسقف الاشتغالات الفكرية المنخفضة آنذاك لم تسمح بالبناء عليها عبر تفريعات فلسفية يقدح في الفضاء الثقافي، وظل ابن طفيل مهملاً إلى أن ظهرت شخصيات ماوكلي وطرزان وروبنسون كروزو وجميع الأدبيات التي ظهرت على هامش الاستعمار الأوروبي، وبدأ الالتفات لها وإعادة طباعتها. هذه القصة التراثية ذات العمق الوجودي هي غيض من فيض مغيب في غياهب الكتب، بدون أن تستثمر في الفضاء الثقافي. وما انتشار فكر الإقصاء الاستئصالي في المناخ الفكري في وقتنا الحاضر لاسيما على وسائل التواصل، إلا نتيجة لغياب الفلسفة والمنطق مع الخضوع لأحادية الجواب الفقهي. ولعل القفزات الشاهقة التي اتخذتها وزارة التعليم بإدراج الفلسفة، والتفكير النقدي، والاستدلال المنطقي، هي خطوة جوهرية في مواجهة مظاهر التطرف، والاستبداد، والإقصاء، وجميع ما يعيق علاقتنا مع الآخر والاستثمار في المنتج الحضاري العالمي. ويوازي هذا الشراكة الأكاديمية بين الجامعات ووزارة الثقافة في التأسيس لأكاديميات تثق بقيم الحق والخير والجمال كشعلة المسيرة الإنسانية.