هل يمكن ان تكون الفلسفة عربية؟ إن الجواب عن هذا السؤال قد يحمل الايجاب، اذ يمكن الفلسفة ان تكون، بمعنى ما، عربية أو صينية أو هندية أو يونانية أو إسلامية أو ألمانية، بقدر ما يتم التفكير في المقام الذي تشيد عليه مفاهيمها والمشكلات التي تطرحها، حيث يتأثر هذا المقام بما ينتظم عليه وما يرد اليه من استجابات لأقلمة ما: قومية أو كونية. غير ان ما يمكن رفضه أو نفيه هو ان تقدم الفلسفة بصفتها ضرورة ذاتية، سواء كانت الضرورة في حد ذاتها أو عند أي شعب من الشعوب، وإن صورت كذلك في حال من الحالات، فهي تشبه الضرورة المزيفة، لأن الفلسفة تأتي، من خلال الممارسة، استجابة لأسباب احتمالية وتركيبية معقدة، بحسب ما يقول "جيل دولوز" بنباهة منقطعة النظير في كتابه المؤسس "ما هي الفلسفة". ويقودنا السؤال الى ان ما انشغل به بعض المشتغلين في الفكر على الساحة الثقافية العربية خلال السنوات القليلة الماضية، حيث سكنهم همّ البحث عن فلسفة عربية، لها تميزها الخاص، فأصدروا دعوات متأخرة، تنادي بتأسيس "فلسفة عربية متميزة". وهي دعوات لا تخرج عن مشادات الصراع في الخطاب، وتدخل في سياق الجدل الذي لن ينتهي حول كونية الفلسفة وقوميتها، وهو جدل يمتد عميقاً في التراث الفلسفي العالمي. لكن إثارته في أيامنا هذه، لا تخرج من محاولة البحث عن مخرج من حال الانهيار والتردي التي تعيشها البلاد العربية على مختلف الصعد، وبالتالي يسكنها سؤال الهوية المؤرق الذي سكن معظم الكتابات الثقافية العربية منذ بداية الدعوات النهضوية، ولم يغادرها الى يومنا هذا. والملاحظ ان مثل هذه الدعوات التي أطلقها كل من طه عبدالرحمن في كتابه "الحق العربي في الاختلاف الفلسفي"، وأبو يعرب المرزوقي وطيب تيزيني في كتابهما الحواري المشترك "آفاق فلسفة عربية معاصرة"، تنطلق دوماً مما يشبه تصفية حساب مع الاتجاهات الفلسفية الحالية الحديثة، ومع اللحظات الفلسفية العربية الإسلامية في عصورها الذهبية والمتأخرة، فتسمها بجملة سمات عمومية اختزالية، من دون النظر اليها ودراستها في سياقها التاريخي والمعرفي والجغرافي، ومن دون إخضاعها لنقد يرتقي بالتجربة أو يحدد شروط الإمكان لها. ويطلق طه عبدالرحمن دعوته في سياق البحث عن سؤال فلسفي عربي مختلف عن سواه، وذلك بالنظر الى اشتهار الفلسفة بممارسة السؤال، وتعدد أشكاله الفلسفية التي اختلفت باختلاف أطوار تلك الممارسة، ويصوغ مفهوماً جديداً له يدعوه "السؤال المسؤول"، معتبراً اياه الطور الثالث من اطوار السؤال الفلسفي، حيث يحدد أبرز شكلين للسؤال الفلسفي: السؤال القديم الذي يخص به الطور اليوناني، والسؤال الحديث الذي يخص به الطور الأوروبي. ويرى ان السؤال الفلسفي اليوناني القديم كان سؤال فحص، اما السؤال الأوروبي الحديث فهو سؤال نقد، وقد آن الأوان لتجاوز شكل النقد بعد ان تجاوزنا من قبل شكل الفحص، وعليه يكلف نفسه مهمة تجاوز شكلي السؤال الفلسفي، وهي مهمة بلا شك كبيرة وجليلة. وعلى الطرف نفسه، يحاول المرزوقي، في سعيه الى تأسيس فلسفة عربية متميزة، تحديد ما المقصود بالفلسفة العربية، فلا يجده متعيناً، بل يسحب المفهوم الى لحظتين منفصلتين، من تاريخ الفكر العربي الاسلامي: الأولى بدأت من نهايات القرن الثاني للهجرة، اي حين بلغت البحوث الكلامية واللغوية مرحلة السؤال الفلسفي ولقائها مع الفكر اليوناني، وانتهت عند بدايات القرن التاسع للهجرة، اي امتدت الى غاية عصور استقلال الحضارة العربية الاسلامية، ووقفت عند وفاة ابن خلدون الذي يعتبره آخر فلاسفة العرب. اما المرحلة الثانية فتمتد لديه من بداية النهضة في مفتتح القرن التاسع عشر، ولا تزال جارية الى الآن من غير ان تحقق الوصل من اللحظة الأولى او تستطيع القيام المستقل. وعليه، فإن منطلقه هو الماضي بشقيه البعيد والقريب، لذا يرى ان الفكر الفلسفي العربي الحالي موزع بين حركتين متنافرتين: حركة الإحياء، او الانبعاث التي تسعى الى بعث السنن العربية الاسلامية، وحركة الاستنبات التي تسعى الى توطين السنن الغربية. وبالتالي تتمحور حركة الفكر العربي الاسلامي بحسب فهمه في ثنائية ميتافيزيقية ذات قطبين متنافرين متضادين، يضم كل منهما جماعة تخالف الاخرى في كل شيء: جماعة نحن / جماعة هم، الأولى تستند في نظرتها للحاضر الى الماضي وتقتدي برموزه، والثانية مغتربة عن الحاضر وتلجأ الى قيم الآخر ورموزه، لذلك أصبح الصراع بين التأصيليين والتحديثيين هو قلب المعركة النهضوية ببعديها الحضاري والسياسي، بل وأكثر من ذلك "أصبحت المعركة السياسية والحضارية بين الاصلانيين والعلمانيين معركة حية وذاتية للحضارة العربية، لا تجري في الفكر وحده، بل في الساحات السياسية والاجتماعية، وأحياناً حتى في الساحات الحربية". ومرد ذلك هو التنافر بين الأصلاني الذي يرفض الفلسفة المؤمنة، حتى أضحى الصراع بين الايمان والإلحاد فلسفياً بقدرة قادر! اذاً، لا يجهد المرزوقي نفسه في تقصي مكونات الفكر العربي الاسلامي وأطيافه المختلفة والمتعددة في الألوان ودرجاتها، بل يرتاح الى تقسيم ميتافيزيقي ثنائي، يقوم على الفصل والإحالة والتقابل، بل والصراع بين قطبي ثنائية: الايمان والإلحاد. وينظم قوله "الفلسفي" على رؤية ميتافيزيقية تختزل سبب تخلف العرب والمسلمين في بعد أحادي فوقي، يقوم على اساس فكري محض ومتخيل، قوامه الصراع الفكري بين طرفي قطبي الثنائية الميتافيزيقية السابقة وما يتناسل منها من مكونات وإرهاصات. ورؤية كهذه لا تنظر الى الاسباب الاجتماعية والاقتصادية والتاريخية لواقع الحال، كونها مشغولة بالتعالي عليه، ويريحها تشطير الفكر بين ايماني وإلحادي، وتشطير العالم الى هم ونحن، وتشطير الفلسفة الى فلسفة ايمانية وفلسفة غير ايمانية، وبذلك لا يخرج عن منتجات التمركزية الغربية. ويركن المرزوقي الى ما في رأسه ليقول إن ما يجري الآن لا يتعدى كونه حرباً فلسفية بين الايمان والإلحاد، ويضع نفسه بالطبع في الخانة الأولى، فيما يقذف بالآخرين في جهنم الخانة الثانية. وعلى هذه الخلفية يسوق في ذهنه المشروع التأسيسي لفلسفة عربية متميزة، بعد ان يصفي حسابه مع اللحظتين الفلسفيتين العربيتين الاسلاميتين الوسيطة والمعاصرة، لأن ما يجمع بينهما، كما يقول، جعل القول الفلسفي أقرب الى القول الانشائي الفوقي، ومن ثم الى القول العقدي البعيد كل البعد عن القول العلمي على حد زعمه، وهذا الجامع بينهما يضعه في انفصالين: أولهما الانفصال المعرفي بين القول الفلسفي وموضوعه من الممارسات النظرية والعملية، وثانيهما الانفصال الوجودي بين القول الفلسفي وشروطه التاريخيه، ما أدى الى غياب الشرط الجوهري الذي يجعل الفلسفة مع بقائها فلسفة. وينحاز المرزوقي، كما في كتبه السابقة، الى ابن تيمية وابن خلدون، زاعماً وفق منطق وثوقي ولا تاريخي، ان الحلول التي وضعاها في الفلسفة هي افضل ألف مرة من كل الحلول التي اقترحها "أدعياء التفلسف من المحدثين الذين ليس لهم ثقافة تضاهي ثقافتهما". وبهذا يؤكد منهجية ماضوية تفضيلية وميتافيزيقية ترى في الماضي ورموزه المثال الأفضل على رغم ركام العصور والمعارف الفاصلة بين الماضي والحاضر. ومع هذا كله يجهد المرزوقي نفسه في البحث عن مشروع تأسيس فلسفة عربية متميزة، له مقومات حقيقية يقتضيها الفكر الفلسفي، بصفتها تعبيراً عن وعي نهضوي مقبل او مدبر. وإذا سألناه من أين يبدأ مشروعك هذا؟ لن نجد إجابة غير: الشكل الديني، وبالتالي يرتكز سعيه في استخراج الأبعاد التأسيسية التي تؤسس للاستئناف التاريخي من هذا الشكل. كذلك، يعود طيب تيزيني الى بدايات الفلسفة العربية، ليجد ان المفكرين العرب والإسلاميين راحوا يواجهون، منذ بداية نشاطهم، حالاً فكرية اخذت تفرض نفسها عليهم، وتجسدت في المنظومة الاعتقادية والثقافية الإسلامية. ما جعل الفكر العربي الإسلامي لا يبتعد في سيره بعيداً من الخطاب الإسلامي. وتعين على الإرهاصات الفلسفية ان تلف على الخطاب الديني الإسلامي كي تنال مشروعيتها التاريخية والنظرية عبر القراءات التأويلية لذلك الخطاب، وظل ذلك مشروعاً بتغير الأحوال السياسية بين سلطات ثلاث: سلطة الفقهاء، وجمهور المؤمنين، وموقع الحرية الفكرية. وعنى ذلك توزع المنتج الفلسفي ضمن شرط تاريخي وإيديولوجي ومعرفي محفوف بالمخاطر ومهدد بالملاحقة. وأثر هذا الشرط في النتاج الفلسفي العربي الإسلامي، فجعل النص الفلسفي يتوزع في أنماط مختلفة: نص خفي، ونص احتمالي، ونص مسكوت عنه، ونص مدان، ونص مهمش، ونص معلق. واستمرت هذه الملاحقة للإنتاج الفلسفي في المرحلة العربية المعاصرة بصور مختلفة ونسبية. اما وضع الفلسفة في العالم الراهن فيعاني ازمة بنيوية حادة، نظراً الى المتغيرات المتسارعة التي يشهدها العالم منذ الربع الأخير من القرن العشرين، حيث امتد ما اصاب الفلسفة كونياً الى وضعها العربي الراهن متجسداً في نزعات علموية ووظيفية وإيديولوجية، اضافة الى الموقف العربي من الفلسفة الذي يراها شأناً من شؤون النخب المحترفة. كل ذلك يعمق ازمة الفلسفة في واقع الفكر العربي الراهن في بعديها المعرفي والإيديولوجي. ويستنتج تيزيني من ذلك ان القول باحتمال إمكان نشوء فكر فلسفي في المجتمع العربي المعاصر مقرون بشروط اربعة، هي: جعل الإنتاج النظري الفلسفي نسقاً ذهنياً مستقلاً نسبياً في تقسيم العمل، والتعددية الإيديولوجية والثقافية العامة ضمن المؤسسات الدولية والمدنية، والحرية في الإنتاج الفلسفي، ونشوء مؤسسات علمية وفكرية عامة، تعمل على جعل هذا الإنتاج حالاً مجتمعية عامة. هكذا، يلجأ بعض المتفلسفين الجدد الى الاتكاء على النقد والرفض، كي يبنوا نموذجاً يسكن رؤوسهم وحدهم، من غير ان ينظروا في ما تناولوه أو بشروا به بروية ونفاذ بصيرة، لنعود مرة اخرى الى فاعلية التسمية وسلطة الألفاظ والتراكيب اللغوية التي لا يسندها سند سوى بلاغة لا تقول شيئاً عن "الفلسفة العربية المتميزة"، ونحار في امرنا، فنتساءل: هل علينا، دوماً، اعادة السؤال الذي لا يقف عند حد، وهو لماذا لا نتهم بالبناء الفلسفي والممارسة الفلسفية والفكرية، وندع منطق الإلغاء والإقصاء والاختزال جانباً، لئلا نسلك سلوكاً ما درج الساسة العرب على تكراره في ايامنا هذه، ولم يجيدوا غيره في عالم السياسة الواسع، وهو رمي كل اسباب الانهيارات والأزمات والهزائم التي نعانيها دوماً في ملاعب الآخرين؟ * كاتب سوري.