خرج حسن الترابي الزعيم السوداني الإخواني الشهير متحدثاً -ذات مرة- عن التجربة السياسية (للحركة الإسلامية) التي كان يتزعمها، وكان صريحاً إلى حد كبير في بيان أسباب فشل هذه التجربة، وكيف أن الحركات الإسلامية لا تكاد تختلف عن غيرها عند تربعها على كرسي الحكم والسياسة، وأن أبناء هذه الحركات كغيرهم من الأحزاب الأخرى لديهم مطامع بالسلطة والمال، لكن الشيء الذي لم يقله -أو لم يرد أن يقوله- هو خطورة التعبئة (الدينية) التي تمارسها هذه الجماعات؛ سواء وهي في طريقها إلى السلطة، أو عند تربعها على كرسي الحكم؛ ففي الحالة الأولى -في الطريق إلى السلطة- تمارس الحركة تعبئة جماهيرية خادعة لأتباعها عبر الإيحاء المستمر لهم بأن من سيحكم هو الإسلام وليس الحركة والحزب!، وتحشد في سبيل ذلك كل الإمكانات والوسائل، وفي المقابل يتم تصوير الأحزاب المنافسة الأخرى بأنها عدو مبين للإسلام والمسلمين، وفي هذا الظرف وهذه اللحظة يتحول أبناء الحركة (المغرر بهم) إلى تنظيم أيديولوجي متطرف وفي غاية الشراسة، وهنا لا تسل عن النتائج الكارثية التي تخلفها هذه التعبئة على الإسلام وعلى الوعي وعلى خطاب الوسطية والاعتدال ليس أقلها من ولادة جيل معبأ بالأيديولوجيا، لا يقرأ الأحداث إلا من خلال نظرية الثنائيات: الحق والباطل/ الإسلام والكفر، فضلاً عما تخلفه هذه التعبئة من أثر بعيد على وعي الجيل في نظرته للإسلام كنظام شامل للحكم وللشريعة الغراء كمنهج حياة؛ لأن فشل الحركة -عند جماهير الناس- يعني عندهم فشل الإسلام كنموذج في الحكم! ومن الإشكالات العميقة التي تولدها هذه التعبئة أن أبناء هذه الحركة أو الحزب لا يمكن أن يكون ولاؤهم للدولة مهما حققت من نجاح وتطور! وسيكون الظفر بغنيمة السلطة هاجساً يراود خيالهم في كل وقت وحين، وحنيناً يزورهم كل وقت مهما طال الأمد؛ لا لأنهم يرون أنهم أحق من الآخر بالحكم فقط وإنما لأنهم لا يرون هذا الآخر أصلاً مسلماً، وهذا هو الخطير في الأمر، وقد لمح إليه الترابي كثيراً في هذه المقابلة، فأبناء الحركة لا يرون من سواهم مسلماً إسلاماً صحيحاً، وكل الذين ينتمون لغير الحركة سواء كانوا من عامة الناس أو من هذه الأنظمة ليسوا على صراط مستقيم، بل في ضلال مبين، وهنا تدخل ورقة التكفير في ملعب السياسة، وهي ورقة في غاية الخطورة، لأنها إذا حضرت غاب معها كل شيء! بقي أن يقال إن الدولة الحديثة تواجه اليوم تحدياً كبيراً من أبناء الحركة، فلا يكاد يخلو مجتمع من هؤلاء، ولا يمكن لأي دولة أن تنمو نمواً طبيعياً في مثل هذه الأجواء، وعلى الدول مسؤوليات كبيرة في إصلاح ما أفسدته الحركات، وذلك بوضع برامج تأهيلية لأبناء الحركة في المجتمع، وليست هناك وسيلة لتأهيلهم أفضل من أن نبين لهم التصور الصحيح والعظيم لحقيقة الإسلام، وأن هذا الإسلام الذي حمى الصحابة رضوان الله عليهم من التفرق والانقسام وهم حدثاء عهد بجاهلية قادر على أن يحمي أبناءنا وشبابنا. يجب أن نبين لهم نظام الحكم في الإسلام عبر توضيح مقامي الجماعة والإمامة، ونبين لهم بجلاء أن الإسلام لا يتوق إلى شيء أكثر من توقه إلى الاجتماع والائتلاف، ولا ينفر من شيء أشد من نفوره من إزهاق النفوس البريئة، ولا يحذر من شيء كما يحذر من التلون والخداع، ولا يرغب في شيء أكثر من ترغيبه بالصدق والإخلاص، وكل النماذج التي تقدم نفسها على أنها تقيم حكم الإسلام، وهي تستهين بالأرواح وتمارس المكر والخديعة ليست من هدي الإسلام في شيء. وفي المقابل علينا أن نستعمل المنهج النبوي في بيان الحق، وهو الرفق والرحمة، وأن نحذر كل الحذر في الوقوع في نفس الفخ الذي وقع فيه هؤلاء، وهو المزايدة على الناس، وإذا كان أبناء الحركة يزايدون على الناس بدينهم وإيمانهم فلا يجوز لأبناء الدولة أن يزايدوا على الناس بالمواطنة والانتماء، فالمزايدة شر كلها سواء كانت في اليمين أو في اليسار، والنتيجة الطبيعية لهذه المزايدة هي الانقسام والتشظي وتحويل الولاء من الولاء للدولة والقيادة إلى الولاء للرموز والشخصيات، وما نراه اليوم -بكل أسف- من محاولة البعض بتحويل أبناء الدولة إلى حزب يهاجم من يهاجمه ويهادن من يهادنه فهذا مؤشر خطير يجب تداركه قبل فوات الأوان، خاصة أن هذا (التحزب الجديد) يغطي ممارساته بشعارات دينية تصنيفية، وهذه ورقة خطيرة مؤذنة بعودة أبناء الحركة للملعب لكن من الباب الخلفي! كاتب سعودي [email protected]