شيئان فحسب لا توجد فيهما أزمة في العاصمة السودانية بمدنها الثلاث - الخرطوموأم درمانوالخرطوم بحري - هما: الشائعة والنكتة السياسية. وكلما زاد اليأس في نفوس الناس بسبب غموض المصير المجهول الذي تواجهه البلاد، أمّت جموعهم مسجد جامعة الخرطوم، حيث يصلي الجمعة كبار قادة الجبهة الاسلامية القومية التي كانت حتى الشهر الماضي تحكم البلاد بلا منازع، والكل يتفرج عليها: الجيش، الشارع، التجار، المعارضون، وحتى القلة المتعاطفة مع الشعار الاسلامي الذي ترفعه. هناك تحدث المواجهة بين رجال الجبهة أنفسهم، وشبانهم الذين أضحوا يدركون بشكل متزايد أن حبل الشعارات قصير، وأن الشارع السوداني ليس قطيعاً يمكن سوقه الى حتفه حافياً حليق الرأس. وكانت صلاة الجمعة الماضية، والتي سبقتها، أشد دلالة على عمق الشروخ التي هدت كيان الجبهة الاسلامية القومية. فقد تساءل أحد شبابها من أفراد قوات الأمن، بصوت عال: "هل الدكتور حسن عبدالله الترابي عبقري زمانه ليبقى 40 عاماً قائداً أوحد للحركة الإسلامية"؟ ومن يحضر مثل هذه المناقشات يفطن سريعاً الى ان الأزمة داخل الجبهة خرجت من مرحلة الشللية والمصالح الخاصة المتضاربة، وبلغت طور التشكيك في قيادة الدكتور الترابي. وهي خلاصات لا تحتاج الى دلائل مستعصية، بعدما قرر الرئيس السوداني الفريق عمر البشير إبعاد أبناء الترابي عن السيطرة الفعلية على أجهزة الأمن، وديوان رئاسة الجمهورية، والأمانة العامة لمجلس الوزراء. وكانت تلك الإجراءات بدأت بقرار جمهوري قضى بنقل علي عثمان محمد طه وزير الخارجية الحالي من وزارة التخطيط الاجتماعي التي تعتبر المؤسسة التي كلفها الترابي تنفيذ برنامجه لتغيير البنية الاجتماعية للشعب، واختصها بأموال الزكاة التي تجبى بالعملات المحلية والاجنبية، وأبعد معه الدكتور غازي صلاح الدين العتباني الذي كان وزيراً للشؤون السياسية في رئاسة الجمهورية، وهو سكرتير سابق للترابي واحد قادة الجبهة الذين نفذوا الغزو العسكري ضد القوات المسلحة السودانية العام 1976، ليعينه وزيراً للدولة في وزارة الخارجية. وألحق الرئيس السوداني ذلك بعزل قادة اجهزة الامن، خصوصا ًالدكتور نافع علي نافع، وإزاحة الدكتور عوض احمد الجاز وزير الطاقة الحالي الذي كان رئيساً فعلياً للحكومة بحكم منصبه وزيراً لشؤون مجلس الوزراء. وفي غضون أيام توالت قرارات رئيس الجمهورية لتعلن طلاقاً فعلياً عن سياسات الجبهة القومية الاسلامية في المجالات الأمنية والتنفيذية. وفي العاصمة الخرطوم، حيث لا أسرار في العلاقات السياسية والاجتماعية، فوجئت في أحد الفنادق الفخمة بمن روى لي كيف اتصل الفريق البشير بأحد وزرائه وطلب منه ان ينقل الى مراسل هيئة الاذاعة البريطانية ارتياحه الى تحليله الذي اشار فيه الى ان التعديل الوزاري الاخير استهدف ازاحة مسؤولي الجبهة الاسلامية القومية من أجهزة الامن ووزارات السيادة. وهي واقعة كنت أحسب أني ضمن فئة قليلة وحدنا كنا نعلمها. ولا تعدم من ينبري لينبئك بما يدور في كواليس السلطة، من صراعات وأقاويل وقرارات وأحاديث عن الفساد مستقاة من تقارير رسمية. الخرطوم، أو أم درمان، أو الخرطوم بحري سيان. المشكلات ذاتها التي بقيت تؤلم السكان والزائرين منذ عشرات السنين، لا تزال كما هي: مستنقعات وبرك آسنة تشجع تكاثر الناموس ليلاً، والذباب نهاراً. ويتكاثر الاخير الى درجة التسلل الى استديوهات التلفزيون، والصعود الى كابينات طائرات الخطوط الجوية السودانية. وفيما لا تزال مدن العاصمة السودانية تعاني هذا التلوث، وانقطاع الكهرباء والماء معظم ساعات النهار، تتحدث حكومة ولايتها عن بناء مراكز تجارية، ومطاردة الباعة الجائلين، وفرض رسوم باهظة على إرتياد الحدائق العمومية. لا تجد سودانياً تعرفه او لا تعرفه في شوارع العاصمة ومنازلها لديه ما يمتدح به الوضع. كلهم يجأرون بالشكوى من غلاء المعيشة، وزيادة الفقر. رجل الشارع العادي، اذا احتد نقاشك معه، يقول لك: هذه الحال لا يمكن ان يمدحها سوى مؤيدي الجبهة الاسلامية القومية. وشارع الخرطوم اليوم ليس كما كان قبل حكومة "ثورة الإنقاذ الوطني"، فهو يغص الآن بضباط الجيش المفصولين، وجيوش جرارة من موظفي الخدمة المدنية المحالين على التقاعد ل "الصالح العام"، ومئات الشبان المؤهلين تعليمياً الذين لم يجدوا فرصاً وظيفية بعد التخرج لأن شبان الجبهة الاسلامية ومحاسيبهم إستأثروا بها. إنه شارع "مسيّس" بطريقة شديدة الوعي، ولأن الجبهة استعدته بكل فئاته، نتيجة سياسات الفصل والتشريد والترهيب، بقي منذ ست سنوات يتفرج عليها، حتى لم تجد من تأهله سوى أبنائها وقياداتها الذين أثروا وتضخموا سلطاناً، وأفشوا في أهل البلاد عادات وطبائع لم تكن فيهم من قبل. هذا الفصام بين الجبهة والسلطة العسكرية لم يعد يخفى على المواطن العادي في مدن العاصمة المثلثة في الفترة الأخيرة. وتقول شائعات الخرطوم التي لا تنتهي إن بعض كبار مسؤولي الجبهة استعد لتطورات غير منظورة بإرسال ذويه الى الخارج. لكن السودانيين الذين يجنح بعضهم بطبعه الى عدم الإنفعال بما يجري لئلا يتضح له لاحقاً أن ما حدث كان أكذوبة فحسب، يتساءلون ببرود: هل أسفرت القرارات والتطورات الأخيرة عن فصام حقيقي بين أهم مركزي قوى في الحكم: الرئيس البشير والدكتور الترابي؟ يقول رجل الشارع السوداني إن ما ترتب عن محاولة إغتيال الرئيس المصري حسني مبارك في أديس أبابا نهاية تموز يوليو الماضي، وما رافق ذلك من حملات إعلامية مصرية ضد السودان، نبّه الفريق البشير الى حقيقة وضعه، ومرتبته في هيكل قيادة الجبهة بعد الترابي ونوابه والمقربين إليه. وذكر مطلعون أن وصف الرئىس مبارك نظيره السوداني بأنه "سكرتير للترابي" كان عاملاً حاسماً في قلب معادلة الاوضاع، لجهة التحالف بين العسكريين والجبهة. غير أن الترابي، كما يبدو، لا يزال يسيطر على زمام الأمور في السودان. مع أنه ينفي أي صفة تنفيذية له في النظام، فهو لا يزال يحاضر في كبار موظفي الخدمة المدنية، وحكام الولايات، ويستقبل أعضاء الوفود الأجنبية الذين يزورون البلاد. وهمس أحد مساعديه البارزين في أذني: مهما قيل عن هذا الرجل من نقص طاقته، او حاجته الى العمل عدداً أقل من الساعات، إلا أن الشيء الوحيد الذي لم يتأثر عنده بأي عامل هو دهاؤه وذكاؤه الحاد. ورأى أحد مساعدي رئيس الوزراء السابق السيد الصادق المهدي أن الترابي لا يزال ممسكاً بخيوط النظام، "لكنه - وهذه من مميزاته - يقبل السباحة مع التيار حتى إذا كان لا يوافق هواه". ولعل التطورات المتسارعة الاخيرة في الخرطوم تقف دليلاً على أن الترابي مستعد أحياناً للقبول بما لا يرضاه، وهي سياسة من سياساته التي يطلق عليها "التقيّة". غير أن تلك التطورات نفسها تجسد الصراع الخطير بين الجبهة الاسلامية والفريق البشير، وبين الترابي نفسه والبشير، وبين الترابي واعضاء جبهته الذين تجرعوا العلقم وهم يرون شيخهم وأمينهم العام يبارك المراسيم التي إنتزعت منهم قيادة الأمن وشؤون الرئاسة، وأطلقت خصومهم من السجون. العقل وعمى البصيرة تبدو الرسالة التي تبثها أجهزة الإعلام الحكومية السودانية مضحكة ومثيرة للرثاء لمن لا يكن تعاطفاً للجبهة الاسلامية ويقول أحد اقطاب المعارضة: "من الواضح ان الدكتور الترابي يعكف منذ نجاح الانقلاب العسكري العام 1989 على إلغاء العقل المتعلم الحديث في البلاد، العقل الذي أنجبه التعليم ويعطي المنهج والدليل، ليحل محله عقلاً عرفانياً يقال لصاحبه تلك هي الطريق فيسلكها من دون سؤال أو تشكيك. إنه يبني، عن وعي ودراية ماكرة، طبقة جديدة أساس الترابط بين فئاتها المصلحة المشتركة. لذلك يبدو الخطاب الإعلامي السوداني هزيلاً ومضحكاً في الداخل، لكنه مقنع حقاً للطبقة المستفيدة التي حرص الترابي على بنائها". وتشمل عملية التغيير إعادة صياغة البنى الإجتماعية للسكان، وذلك إنطلاقاً من الحقيقة التي تتمثل في أن الاسرة تمثل تقليدياً أساس المجتمع السوداني، ولا بد من أن يبدأ منها التغيير الذي يريده الترابي. الشيء الوحيد الذي فات على الزعيم السوداني الكبير إدراكه أن السودانيين ليسوا من المتحمسين له بأجمعهم، ولا بد من أن يفطنوا سريعاً الى ما يقوم به. ومن السهل ان يلاحظ الزائر أنه فيما كان محور الترابط الأسري في السابق توقير الصغار لكبارهم، غدا كبير الأسرة حالياً أكثرها مالاً. وهكذا تفشت ظاهرة إنتزاع عمادة الأسرة من الأب لتصبح بيد الابن، ومن الابن الاكبر لتكون بيد الاصغر الذي تيسر له الجبهة الإسلامية السطوة بما لها من مال ووظائف ومصارف وأجهزة أمنية. وقال لي أحد أساتذة جامعة الخرطوم: "بنية الثروة في المجتمع أضحت تخصص لفئات جديدة، تعطى لهم عطاءً، والنتيجة إحداث تغيير خطير في العلاقات الإجتماعية والأسرية". أحد المتحمسين للجبهة الاسلامية رأى أن الترابي ينشئ "نموذجاً جديداً للتفكير، تصفه دول الاستكبار بأنه إرهاب، لكنه ليس كذلك". ومع أن كل مقومات هذا النموذج - يطلق عليه أحيانا "دولة الخلافة الراشدة"، وأحياناً يسمى "دولة السودان العظمى"، وهو أيضاً "المشروع الحضاري السوداني" حسب أجهزة الإعلام الرسمية - إنهارت تماماً في الفترة الأخيرة، خصوصاً بعدما أعلنت اثيوبيا التي تتباهى الجبهة الاسلامية بأنها عاونتها على إطاحة نظام الرئيس السابق منغيستو هايلي مريام إتخاذ إجراءات تأديبية ضد السودان، إلا ان المعوقات الأساسية أمام النموذج بقيت تنحصر في ضعف الامكانات الاقتصادية. كما ان العزلة الديبلوماسية التي يواجهها النظام السوداني تجعله عاجزاً عن بناء نموذجه المنشود ما دام يفتقر الى مساندة دولة مركزية قوية كمصر، أو غيرها. في أحد معاهد تعليم برامج الكومبيوتر التي انتشرت في ضواحي مدن العاصمة المثلثة، لفتني أحد معارفي الى أن من اهم العوامل التي تحكم بفشل النموذج، مهما طال بقاء النظام، "أن ثورة المعلومات، أجهزة الكمبيوتر، وأجهزة إلتقاط برامج القنوات الفضائية، تدخل معظم البيوت السودانية علناً وخفراً. حتى الطفل الصغير أضحى يدرك بعد متابعة ما تعرضه القنوات الفضائية، او بعد الجلوس الى الكومبيوتر، أن النموذج الذي تتحدث عنه أجهزة الإعلام المحلية ماضوي وليس مستقبلياً". الجبهة أين هي؟ يتميز الترابي طوال تاريخه في ميادين الكفاح السياسي في السودان بقدرته الفريدة على "التكيف"، إذ لديه لباس يناسب كل مقتضى جديد، فهو تارة "إخوان مسلمون"، وهو حيناً "جبهة ميثاق إسلامي"، وحيناً آخر "جبهة إسلامية قومية". وأخيراً اقامة تنظيمه الجديد الذي سماه "الحركة الإسلامية الجديدة". واختار نفسه مرشداً وأميناً عاماً له، واختار الفريق البشير رئيساً لمجلس الشورى ونائباً للأمين العام للحركة. وكدأبه في كل مناوراته السياسية، كان تنظيمه الجديد براغماتياً مصلحياً يخدم مراميه لأبعد مدى ممكن. فقد خصص 60 في المئة من مقاعد مجلس الشورى الجديد لمؤيدي "ثورة الإنقاذ"، وهم قلة من العناصر التي عملت مع الرئيس السابق نميري، ابرزهم السيد عزالدين السيد الرئيس السابق لمجلس الشعب البرلمان المايوي، والسيد أحمد عبد الحليم وزير الاعلام السابق، وأبو القاسم محمد ابراهيم النائب الاول لرئيس الجمهورية السابق، وعبد الباسط سبدرات وزير الاعلام الحالي، وعبد العزيز شدو وزير العدل الحالي. وأبقى ال 40 في المئة الباقية من مقاعد المجلس للعناصر القديمة من الجبهة الإسلامية القومية التي لم يعد لها وجود. ويقول المحللون أن اختيار الفريق البشير رئيساً لمجلس الشورى ونائباً للأمين العام للتنظيم الجديد "محاولة ذكية من الترابي لقطع الطريق على أي تنسيق أو تحالف محتمل بين البشير وعلي عثمان محمد طه" وزير الخارجية الحالي الذي كان حتى عهد قريب الرجل الثاني في الجبهة بعد الترابي نفسه الذي تقول مصادر قريبة منه إن وزير الخارجية الحالي قد يفقد منصبه قريباً، "خصوصاً أنه مهمش تماماً منذ فترة. إنه الآن وزير خارجية، لكن وزارة الخارجية الحقيقة هي المؤتمر الشعبي العربي الإسلامي حيث يقابل الترابي كل الزائرين الأجانب". ويبدو واضحاً ان الترابي يريد تمكين "الحركة الاسلامية الجديدة" لتحصين نفسه ضد المتشددين من أبناء الجبهة التي وأدها بيديه. ويقول مقربون من الدكتور نافع علي نافع الرئيس السابق لجهاز الامن الخارجي إن تنصل السلطات الحالية من الجماعات الاسلامية الليبية والجزائرية والمصرية والفلسطينية التي استضافها النظام "تراجع عن سياسة كان وراءها الترابي نفسه". ويضيفون انه بعد نجاح انقلاب العام 1989 برز خطان: "ان تبقى ثورة الإنقاذ الوطني سودانية صميمة، ولا تتبنى أي مشروع خارجي، وكان هناك من يرى أن الثورة اذا حوصرت في الداخل ولم تجد نصرة من الحركات الاسلامية الخارجية فإنها ستنهار، فلا بد من إنفتاح على التيارات الإسلامية في الخارج". وطبقاً لجماعة الدكتور نافع - وهو محاضر سابق في كلية الزراعة في جامعة الخرطوم - أن الترابي نادى بتبني النهج الثاني، "واتضح بعد فوات الأوان أن من أخطر سلبيات هذا النهج هو أن فتح الاراضي السودانية أمام الاسلاميين الاجانب أتاح فرصة لأجهزة إستخبارات عدة لزرع عملاء لها في البلاد". وبالطبع، فإن هذا الخط بلغ ذروة تفجره بوقوع محاولة إغتيال الرئيس مبارك في أديس أبابا نهاية حزيران يونيو الماضي. بعض كبار ضباط الجيش السوداني الذين تربطهم علاقات زمالة بالفريق البشير أكد في مجلس خاص أن من اهم الاسباب الرئيسية التي أطاحت الدكتور نافع أن الرئيس السوداني إكتشف بعد وقوع حادثة أديس أبابا أنه لا يعرف شيئاً عن العلاقات الخاصة بين أجهزة الأمن وجماعات المتطرفين العرب التي تنتشر في محيط العاصمة المثلثة. صراع ضباط الأمن كثيرون من كبار موظفي الخدمة المدنية والضباط المحالين على التقاعد أعربوا عن إرتياحهم الى الطريقة التي أدار بها الفريق البشير معركته الاخيرة ضد أجهزة الأمن الخاضعة لسيطرة الجبهة الاسلامية. والواقع أن التغيير الاخير كان ذروة معركة لولا حنكة رجال القوات المسلحة الذين اختاروا الوقوف مع البشير لاسفرت عن إراقة دماء غزيرة. ظل خصوم الجبهة الاسلامية يتهمونها منذ اليوم الاول لوقوع الانقلاب بأنها تملك أجهزة أمنية لا يمكن إحصاؤها. وعندما كثرت الأقاويل، وزادت الإتهامات في شأن إنتهاك حقوق الإنسان، قرر الترابي إلغاء أجهزة ثانوية منها جهاز امن الثورة، وتوحيد بقية الأجهزة تحت أمرة الدكتور نافع قبل أن يختلفا. ومع ذلك هناك من يقول إن ثمة جهازاً للأمن الخارجي الشعبي يقوده ضابط الإستخبارات المعروف اللواء الفاتح محمد أحمد عروة، وجهاز آخر للأمن الداخلي الشعبي يقوده ضابط آخر يسمى نصر الدين. وهي إزدواجية اضحت سمة من سمات عمل الجبهة: وزارة خارجية يتحكم بها من وراء الستار مجلس للديبلوماسية الشعبية، ومجلس لقيادة الثورة يبصم على قرارات يتخذها مجلس أربعيني من قادة الجبهة، ووزراء يأتمر كل منهم بأمر ممثل لمجلس شورى الجبهة الإسلامية. ولأن شوارع الخرطوم واحياءها الشعبية لا تكتم أسراراً، كان معروفاً أن ثمة صراعات شديدة بين قادة الاجهزة الامنية، خصوصاً بين الدكتور نافع واللواء عروة. وطبقاً لما يتردد في مجالس العاصمة فإن تلك الصراعات بلغت ذروتها بإتهام جماعة نافع اللواء عروة ب "التنسيق مع وكالة الاستخبارات المركزية الاميركية سي. آي. ايه". وفي إطار تنسيق المواقف رأت مجموعة نافع تزكية خط يدعو الى ابعاد عروة سفيراً للسودان لدى الولاياتالمتحدة. وقال مطلعون إن الأخير بدأ فعلياً تسليم مهماته الى أحد وزراء الحكومة من المحسوبين على الجبهة. غير أن المخطط فشل نتيجة رفض واشنطن ترشيحه سفيراً بدعوى "مشاركته في عمليات الحرب الأهلية في جنوب السودان". ولم يكن الترابي بعيداً عن هذا الصراع. فقد بارك ترشيح عروة سفيراً ليس لأنه يريد التخلص منه، لكنه كان يريد، ببراغماتيته المعهودة، ان يطمئن واشنطن عبر من تثق به الى أنه تخلص من جماعات "الافغان العرب" والفئات المتطرفة الاخرى، وأن الشريعة الإسلامية مجمدة عملياً ثمة موضة نسائية رائجة في السودان هذه الأيام، وهي عبارة عن فستان نسائي مفتوح من الخلف. وكانت العلاقات بين نافع والترابي تدهورت في هذه الأثناء، حتى ذكر مراراً أن رئيس جهاز الأمن السابق امتنع عن رفع تقارير الوضع الامني اليه. ويقول موظفون في قصر الرئاسة إن الفريق البشير لم يكن أصلاً يستلطف الدكتور نافع، وانه أعرب لبعض خاصته مرة عن إعتقاده بأنه وجماعته ألحقوا قدراً من الأذى بالنظام أكبر مما تسببت فيه الحرب الاهلية الدائرة في جنوب السودان. وعندما تأزمت الاوضاع الداخلية إثر محاولة إغتيال مبارك، أكدت مصادر متطابقة في الخرطوم أن إجتماعاً عقده البشير مع الترابي وعروة وبحث معهما في تغيير القيادات الأمنية. ويعتقد أنه تطرق الى مخاطر التغيير، في ضوء معلومات عن سيطرة نافع على كميات كبيرة من الأسلحة مخبأة في منازل في المدن الثلاث وبعض ضواحيها. وثمة معلومات أن الرئيس السابق لجهاز الأمن، عندما فوجئ بقرار عزله تحدث الى ضباطه الذين تلقوا تدريبات رفيعة المستوى في إيران، وكان يخشى أن يحدث تمرد. غير ان المصادر ذكرت أن عروة أكد إستعداد ضباط الاستخبارات العسكرية الذين تدربوا لدى الولاياتالمتحدة للحلول محل الضباط الذين يحتمل تمردهم. الترابي ضد الترابي هكذا وجد الترابي نفسه مضطراً الى تهميش قادة جبهته الذين بنى على أكتافهم "مشروعه الحضاري"، مفضلاً إبقاء عروة لمغازلة واشنطن، مطمئناً الى أن أي تحسن في علاقات بلاده بالولاياتالمتحدة سيتبعه تحسن تلقائي في العلاقات مع القاهرة وبعض دول الخليج. غير أن بلوغ ذلك ليس أمراً ميسوراً. إذ لا تزال ثمة فجوات في الثقة بين الترابي والبشير. كما أن الجماعة التي يحيط بها زعيم الجبهة نفسه تبحث عن دور في واقع التحالفات الجديدة التي نجمت عن إلغاء الجبهة، وقيام التنظيم الجديد، وبروز الفريق البشير مركز قوة يسعى الى حشد المراكز الاخرى حوله. وأثارت التطورات المتسارعة الأخيرة قدراً من التساؤلات أكبر من أن تجيب عنه أحاديث المجالس الهامسة: - هل يجد النظام مخرجاً بالمصالحة مع فصائل المعارضة التقليدية؟ وهل ستقبل المعارضة أي صلح؟ وما هي التغطية الخارجية المطلوبة لهذا المخرج المحتمل؟ - هل يوجد حقيقة "صراع مؤجل" بين الترابي والبشير؟ وماذا يريد الترابي؟ وماذا سيفعل البشير؟ - الجيش، أين سيقف؟ مع من؟ وإلى أين ستذهب الجبهة بعدما قذف بها الترابي في مهب الريح؟ إنجازات "ثورة الإنقاذ" غير أن الأهم، قبل الإجابة عن هذه الأسئلة، الإجابة عن سؤال آخر: بعد مرور ست سنوات على نجاح إنقلاب "ثورة الإنقاذ الوطني" ما هي إنجازات الثورة التي لا يمكن أن ينكرها غير مكابر على حد تعبير صحافة الحكومة؟ حرصت - بحثاً عن إجابة شعبية صادقة - على ركوب وسائط النقل في مدن العاصمة الثلاث، حيث الزحام، وشمس الخرطوم تكاد تنسف الأدمغة. طلبت الى محدثي أن يزودوني إجابات منصفة بغض النظر عن المظالم الشخصية. سألت ضابط شرطة سابقاً، وضابطاً سابقاً في الجيش برتبة عميد، وسائق حافلة، وموظفاً كبيراً في وزارة المال يقود عربة أجرة بعد ساعات الدوام، وشاباً ملتحياً لم يكن صعباً أن يتبين المتحدث إليه أنه من مؤيدي الجبهة. أجمعت الآراء التي حصلت عليها على أن الثورة لم تنجز شيئاً يذكر في المجال الإقتصادي. غير أن معظمهم رأى أن المنجزات يمكن حصرها بالآتي: - أعادت حكومة الثورة هيبة الحكم التي ضاعت إبان تناحر الاحزاب وتنافسها. - كسرت غرور حركة "الجيش الشعبي لتحرير السودان" التي وصلت قواتها الى مناطق استراتيجية في جنوب النيل الازرق، وكانت ستجد منفذاً الى مدن العاصمة الثلاث. ضابط الشرطة المفصول قال: "الجنوب أكبر إنجاز للثورة، لقد تقلص التمرد تقلصاً كبيراً". سائق عربة الأجرة الموظف المتعلم قال بصوت هادئ: "الأصح أن يقال أن أهم إنجاز للحكومة الحالية في الجنوب أنها نقلت الحرب الى بيوت الشماليين، شيء إيجابي أن ننفعل نحن الشماليين بالحرب الاهلية عسى أن يكون ذلك مدعاة لحل نهائي". وقال الشاب الملتحي بنبرة تظهر الزهو: "الحكم الفيديرالي بات أمراً لا رجعة عنه، فقد ذاق الناس طعمه، ولن يتخلوا عنه". ورأى عضو في البرلمان الانتقالي المعين: "الحسنة الوحيدة لهذا النظام أنه كشف ضعف جماهير الأحزاب، وأظهر أن الغالبية الصامتة حزب كبير جداً". وعلق صحافي رياضي بارز: "هؤلاء الناس يحكمون السودان ببرنامج بغض النظر عن صوابه او أخطائه. وهو أمر كنا نفتقر إليه في ظل الحكومات الحزبية السابقة". بسيف المعز ام بذهبه؟ يسعى الفريق البشير بحذر شديد الى إنتهاج خطوات من شأنها أن تجمع حوله مراكز القوة الكفيلة بتأييده. وفي الوقت نفسه يسعى الترابي الى تحقيق ما يرومه، مستصحباً نهج التقيّة، محاولاً ما أمكنه الإفلات من قيود التستر التي فرضها على نفسه يوم اختار تعمية الهوية الحقيقية للنظام العام 1989. وتدل النظرة الفاحصة الى طبيعة الاوضاع الحالية، خصوصاً بعدما لم يبق امام النظام المعزول ديبلوماسياً منفذ خارجي سالك سوى تشاد غرباً، على أن الصراع - صامتاً وعلنياً - بات ينحصر الآن بين الترابي والبشير، وأمام كل منهما خيارات قد تبدو محدودة، وقد تكون متناهية. وكلاهما الآن في سباق خطير مع الزمن. بالنسبة الى الدكتور الترابي يقول زملاؤه المخضرمون الذين عملوا معه حتى وقوع إنقلاب عام 1989 إن قناعته الحقيقة أن الفريق البشير بالنسبة إليه "ليس سوى مرحلة". وهو - أي الترابي - بنظرهم "سيحكم السودان بسيف المعز أو بذهبه أو بالإثنين معاً". ولا يبدو علناً أن ثمة شقاقاً بين الرجلين، غير أن زعيم الجبهة الإسلامية حريص جداً على تأجيل إندلاع هذا الصراع. ففي المعلومات أنه رفض إقتراحاً دعاه الى تسلم حقيبة رئاسة الحكومة. وذكر أنه رفض الاقتراح لأنه لا يريد أن يكون مرؤوساً للبشير. وفي المعلومات أيضاً أن وفوداً عدة أثارت معه ضرورة إزالة التناقض الحالي في السلطة. وهو باب تتعدد فيه الأقاويل والروايات، ولعل أبرزها الزعم بأن ختم رئاسة الجمهورية يوجد في منزل الترابي! والتناقضات لم تنجم عن فراغ. ففيما تساق حشود جماهير الولايات السودانية المختلفة لمبايعة الفريق البشير، يقال إن فئات أخرى تبايع الترابي سراً. وفيما تستعد الدولة لتنظيم حملات انتخابات الرئاسة المقبلة، يؤكد رجال الفريق أنه سيرشح نفسه، بينما يتحدث موالون لزعيم الجبهة انه سيكون المرشح الوحيد. ويعزز هؤلاء ما يذهبون إليه بتلميحات الترابي غير مرة الى أن السلطة الدينية والسياسية ستوحدان. ويؤكد مؤيدو البشير انه لن يقبل أي محاولة لترشيح الترابي رئيساً للجمهورية. ويرون إن هذا هو أهم التناقضات المؤجلة. والمعروف عن الترابي أنه يتميز بطول النفس والصبر، كما أنه يجيد التمثيل. وهو دائماً يحيط نفسه بمن يمكن إعتبارهم "رجال المرحلة". ولا يستبعد أن يكون هيأ القلة الباقية حوله لترشيحه وتزكيته في انتخابات الرئاسة. غير أن الأهم من ذلك كله انه - حسبما يرى بعض السياسيين المشاركين في الحكومة الحالية غير الأعضاء في جبهته - "لا يريد لهذه الحكومة نجاحاً ولا فشلاً". ويقول المراقبون المحليون إن نجاح الحكومة سينسب، في الضرورة، الى الفريق البشير. قلت لضابط سابق برتبة لواء كان في الخدمة حتى وقت قريب إن من الظلم إلصاق ذلك بالترابي الذي طالما أعلن مراراً أنه غير راغب في تولي أي منصب تنفيذي، فردّ: "لماذ إذن زجّ بمساعديه المقربين كعلي عثمان وغازي صلاح الدين في وزارات السيادة؟ ولماذا يستقبل سفراء الدول الكبرى؟ ولماذ يروج للحكم الاتحادي؟ ولماذا يخصص أموال المؤتمر الشعبي العربي الإسلامي لزعماء القبائل والفعاليات السياسية والقيادات الجنوبية؟ ولماذا لا يريد عودة خصمه السيد محمد عثمان الميرغني؟ أليس لافتاً حقاً أنه حمل كل آل الميرغني على مغادرة السودان؟ ولماذ تتكرر محاولات جبهته لشق بيت المهدي"؟ سألته من بقي حول الترابي بعدما قضى على الجبهة؟ فأجاب: "جميع الذين يعتبرون حالياً "أبناء الترابي"، لا فائدة منهم لتنظيمه الجديد، لكنهم - في الضرورة - مفيدون لسلطانه. إنهم داخل السودان وخارجه يلعبون السياسة بشروطه: تحقيق أقصى مصلحة فردية ممكنة برغم الشهادات العليا التي يحملونها". واضاف: "خطأ الترابي المميت أنه يعتبر أن دور الجماعة يقلل دوره. ولهذا لم تزد نسبة المتعاطفين مع قائمة الإتجاه الإسلامي في الانتخابات الاخيرة لاتحادات الجامعات على أكثر من 15 في المئة، علماً أن الدائرة الطالبية بقيت تقليدياً مركز تجنيد أعضاء الحركة الإسلامية. في مراكز قوات الدفاع الشعبي ميلشيا حكومية لم تعد تجد سوى أعضاء الجبهة ومجنديها". وزير سابق في أحدى حكومات الفريق البشير سألته - والخرطوم في ظلام عميق نتيجة إنقطاع التيار الكهربائي - أريد أن أعرف في إيجاز غير مخل توقعاتك لمستقبل النظام بالترابي أو من دونه؟ فقال: "لو توارى الترابي لأي سبب ستنتهي حتماً التناقضات التي أشرت إليها، وسيصبح البشير رئيساً للجمهورية بالطريقة نفسها التي تزعم بها نميري البلاد. أما بقاء الترابي فهو لم يعد يخيف أحداً في الداخل". وأضاف: "من الواضح أن الترابي كان تبنى عبر شباب جبهته خط العنف الذي طبق في بداية حكم الإنقاذ، بما في ذلك الإنتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان التي أعتبرها سبباً رئيسياً لإستقالتي من الوزارة، ولكن من الواضح أيضاً أنه بعد الحادث الذي تعرض له في كندا العام 1992 غير قناعاته، لأنه شعر بأن المسألة ستتحول الى إنتقام شخصي. وعلاوة على ذلك فهو بحكم علاقات المصاهرة التي تربطه بآل المهدي، وبحكم السن اضحى شخصاً غير مغامر ولا مقامر، لكننا حقيقة كنا نخاف تصرفات متطرفيه التي لا يمكن التكهن بها". البشير... كل شيء لمصلحته قناعة رجل الشارع العادي في الخرطوم أنه مهما بدا وضع الرئيس السوداني معقداً ومحفوفاً بالمخاطر، "فهو ليس غبياً ولا ضعيفاً، ولا زاهداً في الحكم كما يشيع بعض قادة الجبهة الإسلامية". وينسحب على ذلك الإعتقاد بأن كل ما يحدث حالياً يصب في مصلحة الفريق البشير. ويرى أحد قادة الجبهة السابقين أن "الحركة الإسلامية الجديدة" التي كونها الترابي "حررت البشير من القنوات التقليدية للجبهة كمجلس الشورى والمجلس الأربعيني والمكتب التنفيذي، لأن عناصرها الجديدة التي لا يغلب عليها الإنتماء الى الجبهة أجمعت على زعامته". وأضاف طبقاً لهذا التحليل: "يستطيع البشير أن ينافس في انتخابات الرئاسة المقبلة مرشحين من أحزاب الأمة يرأسه المهدي والإتحادي الديموقراطي يتزعمه الميرغني والجبهة الإسلامية، لأن الإتحاديين وجماعة الجبهة يرون أن أي مرشح للرئاسة جدير بالدعم لئلا يحكم البلاد مرشح حزب الأمة. وبالنسبة الى هذا الحزب الأفضل أن يحكم البشير بدلاً من رئيس ختمي أتحادي تدعمه مصر". غير أن السؤال الأهم في هذا الجانب: أي موقف سيلتزمه الجيش؟ الضباط العاملون والمفصولون الذين تحدثت إليهم "الوسط" أجمعوا على رغم إعمال سياسات الفصل والتشريد، على استحالة التسليم بأن الجيش السوداني هو "جيش الجبهة". وتفيد إحصاءات غير رسمية الى أن عدد الضباط يصل الى 23 ألفاً، فصل منهم نحو 5 آلاف من جميع الرتب، ويعتقد أن الجبهة زجت بنحو 12 ألفاً من شبانها في سلك الضباط، "ما يعني أن التفوق العددي لا يزال للعناصر التي لا تدين بولاء للترابي أو جبهته". وقال: "المشكلة الحقيقية في نظر ضباط الجيش خارج الخدمة وداخلها هي الوضع الإقتصادي. هل سيجد الفريق البشير حلولاً لأزمات الإقتصاد؟ كذلك نعتقد بأن أي تغيير في حاجة الى إتصالات خارجية جيدة، مع مصر والسعودية، وإتصالات بالمعارضة في الداخل والخارج. في ضوء ذلك سيحدد الجيش موقفه". ويرى السياسيون الذين لا يمارسون نشاطاً علنياً يذكر منذ حظر الأحزاب السياسية قبل ست سنوات "أن الجيش تحركه على الدوام مصالح أفراده، ولا يستجيب أي دواع ايديولوجية أو فكرية. وليس هناك أي سبب قوي يدفعه للوقوف ضد البشير إذا واصل خطواته الحالية ضد الجبهة". أحد شبان التيار الذي ينسب الى الترابي كشف أن أصواتاً ارتفعت في الفترة الأخيرة بالدعوة الى فتح منابر للرأي الآخر، "على غرار تجربة الرئيس المصري السابق أنور السادات". وأضاف: "هذا الاحتمال تعززه الأزمات المتفاقمة سياسياً وإقتصادياً، والضغوط الخارجية التي يواجهها النظام". وقال في نبرة إستياء لا تخفى: "حتى العمل الإسلامي الذي كرسنا له الحكم يعاني ركوداً شديداً، إذ لا توجد قيادة للتنظيم السياسي، ولا توجد قيادة للمنظمات الشبابية، وهناك أزمة منظمات سياسية لم يشهدها حتى الإتحاد الإشتراكي السابق حزب نظام الرئيس نميري. وقادة الجبهة تولوا مناصب تنفيذية، ونأوا عن العمل السياسي. ما معنى أن يتولى غازي صلاح الدين وعلي عثمان محمد طه وزارة الخارجية في بلد معزول سياسياً أصلاً؟! وأشار مراقبون الى ان تعاون الفريق البشير مع التحقيقات المتعلقة بمحاولة اغتيال الرئيس مبارك سيضمن له تأييد مصر ودعمها اذا ما اضطر الى مواجهة أي عنف من جانب جماعة الترابي. وقالوا ان هذه أخطر ورقة بيد الرئيس السوداني. أيام في الخرطوم من يزور العاصمة السودانية هذه الأيام يلحظ - إثر تقليب سريع في صحف الحكومة - أن الفئة الوحيدة التي لم تنجح "ثورة الإنقاذ الوطني" في إستقطاب تأييدها هم المثقفون، إذ تخلو صحف النظام من مقالات لصحافيين وكتاب مستنيرين تحوي دفاعاً مقنعاً عما يحصل في البلاد حالياً. وهي الفئة التي عادتها الجبهة منذ أول أيام إنقلابها، فكانوا الأكثر هروباً الى المنافي والمغتربات. ولم تبق سوى قلة من المهندسين والأطباء والفنيين ممن حتمت عليهم ظروفهم العائلية البقاء. ومع اشتداد العزلة والحصار غير المعلن تنحسر كل يوم الخدمات الصحية، وتصبح الكهرباء ترفاً، وتتآمر حتى البيئة لتحيل حياة الناس الى جحيم، إذ يكثر الناموس الناقل للملاريا الذي يقاوم كل العقاقير والمبيدات، ويتوالد الذباب، وتفد أسراب الجراد لتقضي على المحاصيل. غير أن السودانيين بسحناتهم الداكنة لا يعرفون يأساً، تسألهم كيف تأكلون؟ وماذا تكسبون؟ وكيف يكفيكم هذا وذاك؟ والإجابة دائماً هي نفسها: "الله كريم". هذه المرة فقط يجمعون على أن الأفق ملبد بأجواء تغيير. أي تغيير؟ يجيبونك: "الله كريم"! ارتفاع أسعار الخدمات والسلع الأساسية الخدمة / السلعة السعر 1989 1995 خط النقل بالباص 8 جنيهات 50 جنيها عربة الأجرة جماعي 1.5 جنيه 250 جنيها متر قطعة الأرض - درجة اولى 600 جنيه 30 الفا زيارة المستشفى للفرد 10 جنيهات 300 جنيه فاتورة الماء شهريا 3 جنيهات 1000 جنيه ثمن متر الكهرباء 3 قروش 32 جنيها متوسط فاتورة الكهرباء 4 جنيهات شهريا 6000 جنيه الدمغة 5 قروش 150 جنيها رسوم جواز السفر 30 جنيها 5000 جنيه ضريبة المنزل حي راق 500 جنيها 18000 جنيه - حي شعبي - ابوروف 3 جنيها 3000 جنيه غالون البنزين 15 جنيها 1300 جنيه برميل الغزولين 44 غالونا 123 جنيها 3 الفا البرميل الفارغ 150 جنيها 8 الألف أعباء ضربية مباشرة الضريبة / الرسوم 1989 1995 عبور الطريق معبدة وغير معبدة مجانا 200 جنيه استخراج شهادة الوفاة مجانا 100 جنيه ضربية على أجرة العقار 15 $ 35 $ الزكاة غير موجودة 2.5 $ الالتحاق بالمدارس مجانا 10 - 300 جنيه معاناة المواطن السوداني الأرقام بالجنيه السوداني 1989 1995 الحد الأدنى للأجور شهريا 150 5200 الحد الأقصى للأجور شهريا 1200 45000 النفقات اليومية لأسرة 5 أشخاص 10 6000 كلفة طنجرة بامية لعازب ربع كلغ لحم 4 2200