في بداية هذا العام 2020، اجتمع عدد من العلماء والباحثين من جميع أنحاء العالم في المملكة العربية السعودية، وتحديداً في مقر جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية (كاوست) لمناقشة مشكلات أمراض السرطان، والأمراض المختلفة، وكيفية استخدام أحدث ما توصلت إليه التكنولوجيا لعلاج هذه الأمراض. ولقد كان محور مداولات هؤلاء العلماء يدور حول آخر المستجدات في مجال «الطب الشخصي». في عالم اليوم أصبحت الرعاية الصحية تعتمد بشكل متزايد ومتسارع على البحث العلمي الرائد والمتطور، ولكن عمل هؤلاء العلماء في مجال وتطبيق العلاجات والتقنيات الجديدة غالباً ما يكون مخفياً عن أعين الجمهور. وفي هذا الإطار، فإن المجال الأبرز والأكثر تأثيراً لعلماء الرعاية الصحية في المستقبل سيكون في مجال الطب الشخصي الذي يعد خليطاً ما بين العلوم والطب والمعلومات الذكية وذلك بحسب البروفيسور خالد نبيل سلامة، أستاذ الهندسة الكهربائية في الجامعة وأحد منظمي ملتقى كاوست للطب الشخصي ضمن برنامج الإثراء الشتوي مطلع هذا العام، والذي سيصحبنا خلال هذه الأسطر لمعرفة المزيد عن مفهوم هذا التخصص. تستند فكرة الطب الشخصي إلى أن صحة الإنسان يتحكم بها عاملان أساسيان؛ الأول هو العامل الوراثي المكتوب في الشفرة الوراثية «DNA»، والآخر هو البيئة المحيطة بالإنسان من غذاء وأسلوب حياة وغيرهما من العوامل التي تتفاعل مع المادة الوراثية. ويهدف الطب الشخصي إلى تطوير علاجات للمرضى الذين لا يستجيبون للأدوية التقليدية التي تكون أكثر أماناً وفعالية. يقول البروفيسور سلامة: «باختصار نستطيع القول بأن مفهوم الطب الشخصي يعني اختيار الدواء المناسب في الوقت المناسب، بالكمية المناسبة للشخص المناسب، وهذا يجب أن يكون عن طريق إجراء أبحاث عن الجينات المؤثرة في كل مريض، والتقصي عن احتمال وجود جينات وراثية أو عوامل بيئية قد تكون هي وراء الإصابة بهذا المرض أو ذاك لكل شخص بحد ذاته». تاريخ الطب الشخصي يعود تاريخ بداية الطب الشخصي أو ما قد يطلق عليه أيضاً الطب الدقيق أو الطب الموجه أو المحدد إلى ألفي عام مضت، وذلك عندما طرح الطبيب اليوناني أبيقراط، فكرة أن الناس يعانون من أمراض وأعراض واستجابات مختلفة للعلاجات، وأن فكرة استخدام نهج واحد للعلاج يناسب الجميع ليس دائماً أفضل طريقة لرعاية كل مريض. في عام 1900 كان عالم الأحياء والطبيب النمساوي كارل لاندشتاينر، أول من ميز فصائل الدم الرئيسية، وفي عام 1907 أجرى الطبيب الأمريكي روبن أوتنبرغ أول عملية نقل دم ناجحة في أحد مستشفيات نيويورك. في القرن العشرين، واصل الأطباء والباحثون ما يمكن أن نطلق عليه «تخصيص الطب» أو جعله أكثر شخصية عن طريق توثيق وتقصي تاريخ صحة الأسرة لدى الأشخاص للأمراض التي يحتمل أن يكون لها مكون وراثي، أو التي يتم نقلها من جيل إلى جيل. ولكن حتى اكتمال مشروع الجينوم البشري في عام 2003، والذي يعد من أعظم الخطوات في تاريخ العلم لفهم الإنسان وتركيبته البيولوجية، أخذ الطب الشخصي معناه الحالي حيث فتح الباب واسعاً لرسم خرائط التسلسل الجيني للإنسان. وبمرور الوقت بدأ العلماء في بناء مقارنات واستنباط العلاقات بين بعض الأمراض وبعض الجينات لدى الأشخاص من مختلف الأعمار والخلفيات العرقية والإثنية وذلك من خلال دراسات الارتباط على نطاق الجينوم. كيف يعمل الطب الشخصي حول الجينيوم؟ يوضح البروفيسور سلامة أن مفهوم الطب الشخصي تطور من خلال فهمنا وكشفنا للتكوين الجيني للأفراد بحيث يستطيع العلماء والأطباء تحديد العلاج أو الجرعة المناسبة للمريض، وهنا يأتي وجه الاختلاف مع الطب التقليدي الذي يصف الدواء لكل المرضى رغم أن البعض قد لا يستجيب مع ذلك العلاج. فالطب الشخصي يعمل على جمع معلومات حول الجينوم الخاص بك لفهم ما إذا كنت أكثر أو أقل عرضة للاستجابة لنوع معين من الأدوية أو العلاج. يشرح البروفيسور سلامة: «على سبيل المثال لنفترض أن مجموعة من 10 أشخاص من خلفيات متنوعة وصفت لها نفس الجرعة من نفس الدواء لنفس المشكلة الصحية، لكننا نجد أن 7 أشخاص فقط قد يستجيبون للعلاج، والبقية لا، أو تحدث لهم أعراض جانبية، لماذا؟ لأنه وعلى المستوى الوراثي والبيولوجي، يمكن أن يوجد اختلاف كبير داخل تلك المجموعة قد يفسر سبب نجاح العلاج لدى البعض وليس للبعض الآخر. وعادة ما يعتمد الطب التقليدي على نهج التجربة والخطأ، الذي يركز على فكرة أن هذا العلاج من المحتمل أن يكون مناسباً لمعظم هؤلاء المرضى (7 من أصل 10)، أما في الطب الشخصي فيجري فحص المريض قبل إعطائه الدواء من أجل تفادي الأعراض الجانبية السلبية وأيضاً بهدف توفير الوقت والموارد». ويشير البروفيسور سلامة إلى أنه وعلى الرغم من كون أن الأفراد يتشاركون في أكثر من 99% من الحمض النووي الخاص بهم، إلا أن النسبة المتمثلة في أقل من 1% هي التي تؤدي إلى تلك الاختلافات الكبيرة بين الأشخاص واستعدادهم للإصابة ببعض الأمراض، ويضيف: «كل هذا لم نكن نعرفه قبل 5 سنوات بسبب التكلفة العالية لإجراء الاختبارات الجينية التي تنطوي على فحص الحمض النووي، حيث يمكن من خلالها تحديد احتمالية الإصابة بأمراض معينة. اليوم بعد انخفاض التكلفة من مليون دولار أمريكي إلى أقل من ألف دولار أمريكي للشخص الواحد أصبح بمقدورنا إجراء تلك الاختبارات على عدد كبير من الناس وفي وقت وجيز بسرعة وذلك بمعاونة تقنيات الذكاء الاصطناعي». في السابق كانت تكلفة تلك الاختبارات عالية بسبب عدم وجود أجهزة Parallel systems أو ما يعرف بالأنظمة أو الحوسبة المتوازية التي يمكن لها أن تتعامل مع أجزاء كبيرة من الجينوم في نفس الوقت بحيث يمكن التعرف على تسلسل الجينات كلها في وقت واحد. يقول البروفيسور سلامة إنه ومع وجود هذا التقنيات وكلما تناقصت التكلفة يستطيع العلماء إجراء دراسات لعدد أكبر من الناس وإنشاء قاعدة بيانات ومعلومات ضخمة تتضمن التسلسل الجيني لهم، وبالتالي يصبح بالإمكان تحديد الجينات التي يمكن أن تتسبب بإصابة شخص ما بمرض من الأمراض. ويشير البروفيسور سلامة هنا إلى قصة الممثلة الأمريكية انجيلينا جولي التي أجرت لنفسها فحص الاختبارات الجينية الذي كشف عن وجود جين متحور لديها مما جعلها تخضع لجراحة وقائية استباقية لاستئصال الثديين، وهذا ما نطلق عليه «الطب التنبئي». هذا الفرع من الطب لا يبحث فقط في اختيار العلاج الأفضل والمناسب الخاص بكل مريض، بل يمتد ليشمل أيضاً التنبؤ وتقدير احتمالات الإصابة بالأمراض في المستقبل. «قصص نجاح» أنقذت حياة الناس مما لا شك فيه أنه وخلال مسيرة الطب الشخصي كانت هناك الكثير من التحديات والعقبات، ولكن في ذات الوقت كانت هناك قصص النجاح أنقذت وحسنت من حياة الناس. فمثلاً في عام 1998، وافقت إدارة الغذاء والدواء الأمريكية -الهيئة المنظمة للموافقة على الأدوية والأجهزة والعلاجات الطبية والإشراف عليها- على استخدام عقار«هيرسيبتين» Herceptin، وهو دواء يستهدف سرطان الثدي لدى النساء اللواتي تنتج أورامهم بروتيناً معيناً. كما وافقت إدارة الغذاء والدواء الأمريكية على عقار Kalydeco في عام 2012 لعلاج شكل نادر من التليف الكيسي، وهو حالة رئوية مميتة، لم يستجب الأشخاص الذين لديهم طفرة جينية معينة لأدوية أخرى. هنا أيضاً مكن نهج الطب الشخصي الباحثين من تطوير هذا الدواء الذي يعمل لصالح هذه المجموعة الفرعية من الأشخاص الذين لم يستجيبوا لخيارات العلاج الحالية. وفي ما يتعلق بمجال الأطراف الصناعية أو الأجهزة الطبية لخدمة وظيفة معينة، استخدم العلماء تقنيات الطباعة ثلاثية الأبعاد لهذا الغرض كما حدث لأحد المرضى الذي أعيد بناء 75 في المائة من جمجمته وزرعها بمساعدة تلك التقنية. قصة نجاح أخرى حدثت في ربيع 2014 حينما واجه صبي صغير من ولاية يوتا الأمريكية صعوبات في التنفس بسبب عيوب في القصبة الهوائية هددت حياته، هنا لجأ الأطباء إلى خيار استكشافي جديد تمثل في تخليق عضو جديد تماماً له عبر استخدام تقنيات الطباعة ثلاثية الأبعاد. العلاج، الذي أنقذ حياة الطفل، لا يشير فقط إلى إمكانات الأدوات الطبية الجديدة، ولكنه يظهر أيضاً أن خيارات العلاج يمكن أن تكون مصممة بشكل متزايد وفقاً للبيولوجيا الخاصة بالنسبة للمريض. أما بالنسبة لمرضى السكري، يعد نظام جهاز البنكرياس الاصطناعي منتجاً ناجحاً آخر للطب الشخصي، خاصة في ظل وجود أكثر من 347 مليون شخص في جميع أنحاء العالم يعيشون مع هذا المرض. ويعد هذا النظام من الجيل الجديد للتحكم التلقائي في مستوى الجلوكوز، والذي يتيح التكامل السلس لمستشعر الجلوكوز المستمر ومضخة الأنسولين وخوارزمية تحكم ذكية حيث يقوم تلقائياً بتوصيل هرمون الأنسولين لجسم المريض حسب الحاجة. أما بالنسبة لتحديات الطب الشخصي فيوضح البروفيسور سلامة أن هناك آثاراً أخلاقية وقانونية واجتماعية لهذا النوع من الأبحاث. ولعل الخشية الأكبر هي في تعرض المعلومات الخاصة والدقيقة جداً للآلاف من الأشخاص والمخزنة في قواعد البيانات للانتهاك. علاج أمراض السرطان يعد مجال تشخيص وعلاج الأمراض السرطانية من أول وأكثر التخصصات الطبية اعتماداً على فلسفة الطب الشخصي، وبحسب البروفيسور سلامة فإن العلماء يعملون اليوم على تطوير طرق وأنواع جديدة من العلاجات والأدوية لتفادي الأعراض الجانبية المؤلمة التي يتعرض لها مريض السرطان؛ نتيجة استخدام العلاج الاشعاعي والكيماوي، وأيضاً عدم استجابة بعضهم للعلاج. ويشير البروفيسور سلامة إلى علم ما يسمى بdrug delivery أو التوصيل الهادف، وهو طريقة لتوصيل العلاج للخلية المصابة فقط من دون التأثير على باقي الجسم وذلك بمساعدة تقنيات التصوير عالي الجودة. هذا يعني أن توصيل الدواء سيوجه فقط لتلك الخلية السرطانية من أجل ضمان فاعليته، كما أن نظام التوصيل المصمم يجب أن يكون قادراً على تفادي آليات المقاومة في الجسم من أجل تحقيق الهدف المنشود. الطب الشخصي في السعودية على الرغم من أن أبحاث وتقنيات الطب الشخصي قد يكون محتكراً من قبل المراكز والمؤسسات الأمريكية والأوروبية وغيرهما، إلا أن المملكة العربية السعودية تعد في طليعة البلدان العربية التي تعمل في هذا المجال خاصة المراكز البحثية في كل من مستشفى الملك فيصل التخصصي في العاصمة السعودية وأيضاً مستشفى الحرس الوطني. أما بالنسبة لجامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية (كاوست) فيشير البروفيسور سلامة إلى أن الجامعة بما لديها من إمكانات ومرافق متقدمة وباحثين في مجالات العلوم والطب والمعلومات الذكية خاصة في إجراء التحاليل الجينية. فعلى سبيل المثال وفي ظل جائحة كورونا هناك تعاون بين الجامعة ووزارة الصحة وإمارة منطقة مكة لإجراء تحاليل للكشف عن فايروس «كوفيد-19». كما تقوم الجامعة أيضاً بفحص قنوات الصرف الصحي والمجاري وإجراء التحاليل على العينات التي يتم جمعها من هناك. هذا الأمر يسهم في معرفة مدى انتشار المرض، وأيضاً يكشف عن أماكن أو بؤر انتشار الفايروس حتى إن لم تظهر أعراض على سكان تلك المنطقة. في جانب آخر، يشير البروفيسور سلامة إلى أن كثيراً من الأمراض في العالم العربي وفي السعودية لها أسباب وراثية تزيد بزواج الأقارب، وهنا تكمن أهمية إجراء فحص ما قبل الزواج وتقديم النصائح والإرشادات الضرورية. متى يكون الطب الشخصي واقعاً؟ يجيب البروفيسور خالد سلامة عن هذا التساؤل بقوله: «مع التقدم المحرز في مجال تكنولوجيا المعلومات من حواسيب عملاقة مثل حاسوب شاهين في كاوست، وأيضا تقنيات الذكاء الاصطناعي، فقد ساهم ذلك في خفض تكلفة الطب الشخصي إلى حد كبير ولكن ليس إلى الحد الذي يمكن أن يجعله واقعاً ملموساً اليوم. فمثلا ما زالت تكلفة الأدوية المتاحة حالياً في مجال الطب الشخصي تتعدى مئات الآلاف من الدولارات. والتي هي فوق طاقة ملايين المرضى حول العالم»، أما في ما يتعلق بالمستقبل يعتقد البروفيسور سلامة وعدد من العلماء بأن يصبح الطب الشخصي واقعاً معاشاً في غضون العقدين القادمين خاصة إذا كان هناك تعاون أكبر بين الأطباء وعلماء الكيمياء والتكنولوجيا والحاسب الآلي والذكاء الاصطناعي ومختبرات التحليل. «اقتباسات» «يرى العديد من العلماء بأن الطب الشخصي قد يصبح واقعاً معاشاً في غضون العقدين القادمين إذا تضافرت الجهود».