معروف أن للقوة الناعمة لأى دولة، تأثيراً سياسياً كاسحاً يضارع في بعض الحالات أثر وتأثير القوة الخشنة. ولا تكتمل قوة أي دولة، ويستتب وضعها، على الساحة الدولية إلا بامتلاك قدر (معقول) من «القوة»، بشقيها المادي والمعنوي، وبعناصرها المختلفة، وخاصة عنصر القوة الناعمة الأهم وهو العقائد والقيم والمبادئ السامية، التي يقدرها ويحترمها البشر، في كل زمان ومكان، وفى مقدمتها مبادئ: الحرية والعدالة والمساواة، والديمقراطية (الشورى) والتكافل الاجتماعي.. أو ما يسمى ب «المبادئ الخمسة المبجلة» عالمياً وإنسانياً (Universally- Appreciated Principles). إن لكل مجتمع «خصوصية» معينة، بل إن لكل فرد - في أي مكان وزمان- خصوصية معينة خاصة به وحده. ومع ذلك، فإن هناك «عموميات»، وقيماً تجمع فيما بين البشر الأسوياء. ويقال إن هذه القيم هي من أنبل ما يجمع بين بني البشر، إضافة إلى أن تطبيقها يعتبر حاجة أساسية وملحة، لحياة عامة سعيدة، ونقية. كما تعتبر هذه المبادئ الآن أهم حقوق الإنسان. ولا يفوق أهمية هذه القيم سوى الالتزام بتطبيقها بحق، وبالفعل. فالادعاء بالتمسك بها، والتمويه بشأنها، له نتائج عكسية تماماً، على المتلاعبين بها. وهذه المبادئ الخمسة تنبثق منها وعنها العديد من القيم، ويتفرع عنها الكثير من المبادئ المتعلقة بالإنسان وحقوقه وواجباته. فعن مبدأ الحرية تتفرع - على سبيل المثال- حرية التعبير، حرية الصحافة...الخ. وعن مبدأ المساواة تنبثق قوانين منع التفرقة العنصرية وغيرها. وهكذا. أصبح على الدول التي تريد حقاً حماية وتنمية «قوتها»، أن تحمي وتنمي قوتها الصلبة، والناعمة كذلك، وتحرص على تطبيق هذه المبادئ. فكلما تمسكت الدولة بجوهر هذه المبادئ، كلما زاد احترامها وتقديرها من قبل الآخرين. والعكس صحيح. وتعتبر الشعوب التي تقيم دساتيرها على هذه المبادئ وتلتزم بمضمونها بالفعل، شعوباً مستنيرة، وناجحة، وتتمتع بدرجة مرتفعة - نسبياً - من السعادة العامة. ولإدراك أهمية هذه المبادئ، لنتخيل وضع المجتمعات التي لا تسود فيها الحرية والعدالة والمساواة... الخ، أو لنتخيل وضع الإنسان في غيابها. **** ويلاحظ أن الأديان قاطبة تحض على التمسك بمضمون هذه المبادئ، رغم اختلاف «تفاصيل» هذا التمسك الملزم، والمطلوب، ديناً، وعرفاً. هناك اتفاق على «جوهر» ومضمون كل من هذه المبادئ، ولكن الاختلاف ينصب على تفاصيل كل مبدأ، من طرف لآخر. والإسلام هو أكثر الأديان تأكيداً على هذه القيم. إذ يقدم أفضل مضمون لكل مبدأ من هذه. وجاء الفكر السياسي البشرى العالمي ليؤكد نبل وعظمة هذه القيم، وضرورة الالتزام بها في الحياة العامة للمجتمعات الإنسانية، ووضع الآليات العملية لإقامة الحياة العامة على أساسها، تحقيقاً للسعادة العامة، ولتخفيف كبد ومعاناة الإنسان في هذه الدنيا، وجعل عيشه فيها أيسر وأكرم. **** والخلاصة، أن التمسك بهذه المبادئ / الحقوق وما يتفرع عنها، وحسن تطبيقها، يعني تطبيق أهم مبادئ حقوق الإنسان. وهذا الالتزام يمثل أبرز عناصر القوة الناعمة للدول، كما أنه -في ذات الوقت- ييسر الحياة العامة، ويدعم ازدهارها ويسمو بها. لقد أصبح العالم (ممثلاً بمنظمات وجمعيات متخصصة) يراقب، أكثر من أي وقت مضى، مدى التزام الدول المختلفة بحقوق الإنسان. ويسارع بكشف أغلب الانتهاكات، ويشجب مرتكبيها، ويشن ضدهم حملات إعلامية وسياسية محرجة، ومضعفة لمواقفهم ومكانتهم. وأخذت وزارات الخارجية بمعظم دول العالم تولي مسألة حقوق الإنسان، داخل بلدانها وخارجها، الاهتمام، وتنشئ أقساماً إدارية في هذه الوزارات لهذا الغرض. هذا إضافة إلى ما استحدث من هيئات وجمعيات لحقوق الإنسان في أغلب دول العالم. ومع كل ذلك، مازال العالم بعيداً عن تحقق حتى الحد الأدنى المأمول (إنسانياً وعالمياً) من القيم النبيلة، بدليل استمرار وجود انتهاكات صارخة لحقوق شعوب (أغلبها عربية وإسلامية) لم يسع المجتمع الدولي المتنفذ بجدية، لوقفها وزجر مرتكبيها، ناهيك عن معاقبتهم. كما أن الضغوط الدولية والمدنية تركز على ضرورة الالتزام بحقوق الإنسان داخلياً، أي داخل المجتمعات المعنية. أما على المستوى الدولي، فإن هذه الضغوط إما أن تكون ضعيفة جداً، أو معدومة. الأمر الذى جعل «الميكافيلية» والانتهازية تسود معظم السياسات الدولية، وخاصة سياسات القوى الدولية المتنفذة. تخرق حقوق الإنسان، في بعض البلاد، ويسود الظلم، ويستشري القتل، ويتفاقم الاستبداد، ويقضي كثير من البشر مرضاً وجوعاً وعوزاً، ولا من مجير أو نصير. إنه نظام عالمي يدعى العدل وحسب. وقد كشفت جائحة كورونا النظام العالمي السائد، ووضّحت كثيراً من نقاط عواره، ومن ذلك: إهماله لحقوق الإنسان في العلاقات الدولية، لدرجة التجاهل، في أغلب الحالات. والمؤمل، أن تشمل إعادة النظر المرتقبة في سلبيات النظام العالمي الراهن، التي تفرضها أزمة كورونا، هذه المسألة، لتكتسي العلاقات الدولية المستقبلية بقدر من مراعاة حقوق الإنسان. * كاتب سعودي [email protected]