يحاول الرئيس التركي رجب طيب أردوغان استنساخ شخصية السلطان العثماني «سليم الأول» الذي يعد حالة مركزية في التاريخ التركي، بل هو حلقة الوسط في طموحات الأتراك التوسعية التي وصلت لحالة انسداد في حروبها مع أوروبا، ما دفعها لاستبدالها بغزو العرب جنوباً، بعدما خاضت آخر معاركها القاسية ضد حلف يضم الفرنسيين والإسبان، أسفرت عن تنازل العثمانيين وطلب الصلح والاكتفاء من أوروبا تماماً. من يعرف أردوغان عن قرب يرى كيف أنه استدعى شخصية «سليم الأول» من القرن الخامس عشر وأتى بها إلى القرن الحادي والعشرين وتقمصها بطريقة مضحكة في كثير من الأحيان، لعلها تسعفه في تنفيذ مشروعه التوسعي. أسس سليم الأول نفوذه في العام 1512م عبر سلسلة من الخيانات والدسائس وتغيير الولاءات توجها انقلاب دموي قام به ضد والده بايزيد الأول، ساعده فيه «الإنكشاريون» الذين أجهزوا على جميع منافسيه ثم أرغموا والده على التنازل لصالحه. وهو ما فعله أردوغان تماماً الذي قام بالانقلاب على والده الروحي «فتح الله غولن» الشخصية الأقوى في تركيا، عبر الادعاء بأن مؤامرة حيكت ضده دعمها «غولن»، واعتمد في انقلابه على دعم وتسويق مشروعه من خلال إنكشاريي هذا العصر «الإخوان المسلمون» الذين قضوا على كل خصومه، سبقتها سلسلة من التحولات السياسية الميكافيلية التي سبغت تاريخه السياسي. يوصف السلطان العثماني «سليم الأول» بأنه أول من وجه بنادقه ومدافعه باتجاه الإنسان العربي، فقد استباح دماءهم واحتل أراضيهم لخمسة قرون، بينما كان السلاطين العثمانيون من قبله مهتمين أكثر بالتوسع أوروبياً وآسيوياً، لكن تغيراً إستراتيجياً استوعبه العثمانيون بعدما أيقنوا أن حروبهم ضد أوروبا استنفدت أغراضها وأصبح من الملح استنزاف الأراضي العربية في الشام ومصر والجزيرة العربية التي مولت طموحات الأتراك لخمسمائة عام، كما أن ولادة الدولة الروسية وظهورها بقوة على الساحة أدى إلى صدام مصالح بين الدولتين -وكأن الزمن يكرر نفسه اليوم مع روسيا بوتين- إضافة إلى خلافات عميقة وانقسامات بين مراكز القوى في القصر السلطاني. سليم الأول لم يغير إستراتيجية السلطنة العثمانية القائمة على الحروب مع أوروبا فحسب، بل اختطف الخلافة الإسلامية وادعى أنه «أمير المؤمنين»، وفي سبيل ذلك كان لا بد له من أمرين مهمين.. القضاء على الدولة المملوكية -الشرعية- في مصر، والاستيلاء على الحرمين الشريفين في الجزيرة العربية. استنساخ أردوغان لتجربة سليم الأول دعاه لأن يروج في أوساطه الشعبية بأنه «سليم هذا العصر»، لم يكن ذلك مجرد استحضار للتاريخ بل إعادة بناء أحلام توسعية بعدما فشلت تركيا في الانضمام للاتحاد الأوروبي والتحول إلى دولة غربية بكل تفاصيلها الاقتصادية والمجتمعية. في طريقه نحو جنوب الأناضول كما أسلافه يستثمر أردوغان كل ما تقع عليه يداه لتجهيز الأرض العربية، وكما غزا سليم الأول الشام، يسرق أردوغان شمال سوريا مقتطعاً جزءاً من أراضيها، إضافة إلى سعيه عبر المرتزقة لإنشاء جيوب توسعية في ليبيا وقطر وغزة تكون مقاطعات تخضع لإدارته وسيطرته ويدين حكامها بالولاء له، وقواعد متقدمة لو حانت اللحظة الحاسمة للانقضاض على المنطقة. اليوم بعد حوالى خمسمائة عام من الغزو التركي للشام ومصر والجزيرة العربية، وبعد مئة عام من معارك التحرير والخروج المذل للأتراك من الأراضي العربية، يعتمد أردوغان وطاقم إدارته على إستراتيجية واضحة تستخدم إرث سليم الأول وتحاول تطبيقه على الواقع الحالي لإعادة الاحتلال الوجداني وتسويق الخلافة المزعومة. فهل سينجح في ذلك.. بالتأكيد أنه استفد كل ألاعيبه وصحيح أن هناك من يدعم مشروعه العثماني الجديد من «الأتراك العرب»، لكن المؤكد أنه اصطدم في طريقه بما لم يصطدم به سلفه سليم الأول، أنهم بدو الصحراء فرسان الجزيرة العربية في قصر «المصمك» الذين أذلوا مشروعه الاحتلالي وجردوه من كل أسلحته. * كاتب سعودي massaaed@