في زمن الغربة والارتحال تأخذني منك.. وتعدو الظلال.. وأنت عشقي. مطلع قصيدة للشاعر محمد الفيتوري. تراني هل أعيت بدني نضالات الارتحال مثله؟ أذكر الفيتوري حتى في أحلك لحظاتي. السودانيون عرفوه من بوابة أشعاره المغناة على حنجرة مطربهم العظيم محمد وردي. وعرفه العرب بدواوينه وقصائده في عشق أفريقيا، والتمزق بين الهويتين العربية والأفريقية، ونظراته الثاقبة في أحوال الأمة العربية. وربما كان الفيتوري أول من أشعل في جوفي جذوة الصحافة، فهداني إليها، وإن من دون أن يقصد. فقد كنت في طفولتي الباكرة قارئاً مواظباً للافتتاحية التي كان يكتبها إبان توليه رئاسة تحرير مجلة الإذاعة السودانية (هنا أم درمان)، في مطلع ستينات القرن العشرين. وكان يسمي عموده «أفكار لها سيقان». لشد ما أخذ ذلك العنوان بألبابي. وجعلني مواظباً كل أسبوع على مطالعة أفكار الفيتوري و-ببراءة الأطفال- سيقانها أيضاً! ما ذكرت ذلك المشهد من حياتي إلا لأن تلك الذكرى توفر ملاذاً آمناً لنفسي في ساعات القلق، والخوف من المجهول. فقد ظللت طوال عمري أتمنى أن تكون لي أفكار لها سيقان، للنجاة من العقبات التي قد تعترض طريقي. لكن الذكرى سرعان ما تتلاشى ليطل الواقع بهمومه، ومحاذيره، ومجهوله. عدت لتوي من بريطانيا، حيث كنت في مهمة عمل قصيرة. لكن الرعب من فايروس كورونا الجديد (كوفيد 19) جعل حياتي بحراً متلاطماً من الأفكار، والذكريات، والمخاوف! ذهبت كعادتي حين أكون في عاصمة البرد والضباب إلى معظم الأماكن التي شدتني إليها على الدوام أشياء، وشخوص، وحكايات، ومشاهد. المباني لا تزال شاهقة في علو وشموخ. القباب تناطح السحاب. القطارات، والباصات، والسيارات تجوب كل الأماكن. لا شيء عند الإنجليز يتحول إلى طلل. لكنها أطلالي الأثيرة! فقد بقي العِمران، ومضت الوجوه التي ألِفْتُها وألِفَتْهَا تلك الأمكنة. كينغ كروس.. ومحطة سانت بانكراس.. ومحطة بادنغتون. هنا كان ثمة وجود وذكرى لمصطفى سعيد. وعلى مقاهي ادجواير رود ومطاعمها، حيث كنا نتحلق حول الطيب صالح، ونتفرس ملامح وجهه الطيب، كأنما هو كائن قادم من كوكب آخر، ليحكي لنا حكايات القرية ونحن في قلب عاصمة تجري قاطراتها تحت الأرض. ماذا أنت فاعل مع هذا الوحش الجديد «كورونا»؟ هل أنت خائف منه؟ بالطبع لا! المسألة ليست مسألة شجاعة تجاه الألم والمرض. لكن عقلية مصطفى سعيد تصوِّر الأشياء بطريقة تحير المؤسسة الكولونيالية، التي لا تبعد كثيراً من تلك المحطات والمقاهي، وحياة التسكع التي لا تعرف ليلاً ولا نهاراً. كان مصطفى سعيد عاكفاً على أخذ ثأره من الكولونيالية. وكان إرث الكولونيالية قدري الذي لا محيد عنه. استخدم مصطفى سعيد كل تلك الأسلحة التي صورها الطيب صالح، في رائعته الخالدة «موسم الهجرة إلى الشمال»، ولم يشبع انتقاماً. لكنني ولدت يوم كان جنود الإمبراطورية يلملمون متاعهم وسلاحهم ليعودوا إلى بريطانيا، إيذاناً بمنح السودانيين استقلالهم. ظننت لأول وهلة، بتفكير قروي ساذج، أنني نجوت من الاحتكاك المباشر بأسياف الإمبراطورية التي لم تكن الشمس تغيب عنها. لكني تركت البلدة للمدارس العليا في الخرطوم. فألفيتني وجهاً لوجه مع الكولونيالية.. وفي قلب فرع الإمبراطورية في موطني الحبيب! مباني جامعة الخرطوم، والقصر الرئاسي، والمصالح الحكومية، والأشجار العجوز التي غرسها الكولونياليون على شط النيل الأزرق. حتى اللغة الأم لم تنجُ من تلك القبضة الممسكة. فقد كانت لغة الدرس هي اللغة الكولونيالية. والهيكل الوظيفي. كنت سأتخرج قانونياً ناجحاً لألتحق بالقضاء. وبعد سنوات من التملمُل على كرسي القضاء الجالس، كنت سأتجه إلى القضاء الواقف، محامياً يشار إليه بالبنان. يَرْطن داخل المحكمة باللغة الكولونيالية، مردداً ما حفظه من سوابق القضاء الإمبريالي في مجلس اللوردات، وسجلات قضايا السكرتير القضائي البريطاني لحكومة السودان البريطانية. ما أبدعها لغة شكسبير، وأحكام لورد دينينغ، ومقولات رجالات القانون الكبار. وحين يخرج من المحكمة، ليتلقى تهاني أهله وموكليه ومعجبيه على نجاح حججه ودفوعاته، ينقلب إلى لسان الأب والأم. هل تستنسخ تلك الازدواجية مصطفى سعيد ليكون في دخيلة كل من أبناء جيلنا؟! كل تلك الخلجات تومض في عقلي وأنا أركب القطار، وأتحول من باص إلى آخر. وأجول الحوانيت بذات الدهشة القديمة من امتلاء أرففها، وتنوع معروضاتها. ومن حين لآخر يوخزني الخوف من هذا الوحش المسمى كورونا الجديد. هل صحيح -كما تقول لي زوجتي- إن الدرج العميق لمحطات القطارات الجوفية يمكن أن يكون موبوءاً بهذا الفايروس؟ أسألها: ماذا أفعل إذن؟ فتجيب: خليك زي الإنجليز. لا تمسك بالقضبان الحديدية والخشبية على جانبي السلم. اصعد مثلهم. كأنها تقول لي: اصعد في خفة الغزال، ورشاقة حسان لندن! مصطفى سعيد يزورني في تلك اللحظة القاتمة ليسدي لي النصح: توكّل على الله. لن يصيبك شيء. ويعود مصطفى سعيد، مثل حورية في قاع النيل، إلى ديار الأجداد، ويستلهم حكمته المحدّثة ليذكرني بأني وأجدادي ليست هناك «جائحة» على وجه الأرض أخطأت أرضهم التي لا تكاد شمسها تنطفئ ليل نهار. الكوليرا، البلهارسيا، الملاريا، مرض النوم.. ومع ذلك كُتبت لهم النجاة منها. كانوا أشجع منا. وكانوا على استعداد دائم للقتال من أجل إعادة صياغة حياتهم. وما جدوى الشجاعة في هذا الظرف العجيب؟! حسناً سيدتي.. سأكون برشاقة غزال أفريقي يطوي عتبات الدرج طياً. لكن هل يستطيع مصطفى سعيد أن يعيد لي ذلك الشباب، وتلك الرشاقة؟ ذكرت الشاعر السوداني محمد سعيد العباسي يترنم: فارقتُها والشَّعرُ في لونِ الدجى واليومَ عدتُ به صباحاً مُسْفِرا سبعون قَصّرتِ الخُطا فتركنَني أمشي الهُوينى ظالعاً مُتَعثِّرا مِن بعد أنْ كنتُ الذي يطأُ الثرى زهواً ويستهوي الحسانَ تَبخْتُرا ... نعم هكذا تجد مهرباً لاجترار الذكرى. بابٌ سريٌّ يأخذك في درب ضيق متعرج إلى فسحة أمل. وذلك لا يلغي «حدوتة» الخوف من كورونا الجديد. كيف تسنى لمصطفى سعيد أن يحض على طرد تلك المخاوف، واستذكار ملاحم أجدادنا مع الكوليرا، والمجاعة، والمعارك التي استبسلوا فيها لحماية الأرض والعرض من الكولونيالي الذي يتظاهر اليوم بأنه نسي تلك المرارات، والفظائع؟ إن أقصى ما يستطيع الكولونيالي أن يقدمه إليك تعويضاً عن ذلك التاريخ هو أن يجعلك تُصدِّق أنه يعتبرك إنساناً مثله، مساوياً له في الواجبات والحقوق. ولو عرض لك هذا الفايروس السخيف، فهو سيضع جميع إمكانات الخدمة الصحية الوطنية بتصرف الأطباء، لضمان إنقاذك. هل تراك مصدّقاً؟ هل سيلقي مصطفى سعيد أسلحته أرضاً، ويتخلى عن أخذ ثأره؟ إنه فايروس لا يمكن التقليل من خطره. مصطفى سعيد يتحدث بلا انقطاع، وكراسي قطار الأنفاق تشكو الافتقار إلى ذلك الإقبال عليها. آباؤنا وأجدادنا واجهوا وحوشاً ليست أقل فتكاً. حين اجتاحت الإنفلونزا الإسبانية العالم في 1919 كان أجدادنا يقطعون فيافي بواديهم برشاقة الغزلان. لم تنتشهم إنفلونزا أحفاد عرب الأندلس. هل يعيد التاريخ نفسه حقاً؟ في مستهل القرن التاسع عشر، حين كانت مدينة ود مدني عاصمة للسودان، عقب الاحتلال التركي بقيادة إسماعيل بن محمد علي باشا، اجتاحت المدينة جائحة الكوليرا. لم يكن هناك أطباء بالمعنى المتعارف حالياً. أصبح الموت مرأى اعتيادياً في شوارع المدينة وأزقتها وأكواخها الفقيرة. ولما كان انتشار الوباء شرساً وخطيراً حقاً، فقد تم إجلاء سكان قرية مجاورة للمدينة، خصصت مكاناً للعزل الصحي، كما هو شائع اليوم. يا عم مصطفى سعيد.. ما هذا التاريخ الذي تريدني أن أتسلح به للقضاء على ذلك الوحش وهو يأخذ الناس من حولي؟ استنكر مصطفى سعيد وصفه ب«العم»! فقد تركه الطيب صالح مدججاً بشباب لا يَفْنَى. لكن الأنكى منها يا عم مصطفى أن تناديك مليحة: يا عم.....! والأشد نكاية، بل لعلها الرصاصة القاتلة أن يصيح بك أحفادك: يا جدّو......! هل تركوا لك طريقاً غير السير في الدرب المحتوم؟ وبات الهدف المحتوم سهلاً الوصول إليه بنزلة برد، أو نوبة قلبية، أو بكورونا الجديد. تعددت الأسباب.. والهدف وحيد ومحتوم. هل يعقل أن تكون بهذا القدر من التشاؤم. هل تذكر خالتك حين تزورك وأنت نائم تحت شجرة النيم الظليلة وسط الحوش؟ تبلغها بأنك تشعر بأن جسمك «مُش على بعضه».. وتقول لها في صوت خفيض: يمكن دي الملاريا يا خالتي. فتفتح عينيها واسعتين وتصيح بأعلى صوتها: فال الله ولا فالك. ملاريةْ شنو يا وليدي؟! لم يُثنني شيء عن مواصلة ارتياد الأماكن والمتاجر التي اعتدت الاختلاف إليها كلما عدت إلى لندن. بدأ بيتي يتحول إلى كتيبة مجيشة ضد كورونا الجديد. يا إلهي. هذا القاتل أهرب منه بالقطارات، والباصات، ويأتي ليحاصرني داخل بيتي. كل مكان في البيت تحول إلى ما يشبه مكتب الاستقبال بالعيادة أو المستشفى. معقمات اليد. القفازات. عبوة الكمامات. أوامر لحفيداتي بعدم المصافحة! ممنوع مغادرة المنزل. ممنوع طلب الأكل من المطاعم «ديلفري». يا إلهي. هل هي الحرب العالمية الثالثة في عقر دارنا؟ مصطفى سعيد لن يضيره شيء. فقد أشفى غليله من الكولونيالية. فَمِمَّ أنت مغبونٌ؟ لقد ازدردتَ زبدةَ ما تركته الكولونيالية. حصدتَ من التعليم أجوده. ونعمتَ بإدارة محلية لا تزال تعمل بكفاءة في بلاد السيد الكولونيالي. وأتاح لك ذلك أن تعيش وسط كل الاتجاهات. نهلت من الليبيرالية. وعايشت التزمت، والغلو. عرفت أهل اليمين، وأهل اليسار. عشت عصور الانفتاح، والانغلاق، والشمول، هل يعقل أن يضيع ذلك كله بسبب هذا الفايروس اللعين؟ أسرتك الصغيرة تتحلق حولك وهي عاجزة عن فعل شيء. أطباء الكولونيالية ليس بيدهم سوى أن تموت، فيضيفوك إلى الإحصاء اليومي لعدد الضحايا. ستصبح رقماً مجهولاً. لن يكون هناك سجل بأسماء ضحايا هذا الفايروس. لو كنت ضمن ضحايا الحرب العالمية الأولى أو الثانية، قطعاً سيكون اسمك مدوناً في إحدى محطات القطار الجوفي، أو أحد متاحف الحرب، على ضفة نهر التايمز. هنا، لو «حدث ما حدث» ستغيب عن المشهد كليةً. لكن الكولونيالية وكورونا الجديد لا يغيبان مطلقاً. كنتُ محظوظاً أني تمكنت من اللحاق بإحدى آخر الرحلات الدولية التي استقبلتها المطارات السعودية. كان مطار هيثرو مدينة أشباح، حين وصلت إليه لاستكمال إجراءات المغادرة. عدد موظفي وموظفات الخطوط الجوية البريطانية أكبر من عدد المسافرين! ذهبت للمطار مرتدياً القفاز والكمامة. استسلمت تماماً لسيل الأوامر التي أضحت تصدر من داخل بيتي. لا تنزع الكمامة داخل الطائرة. انتبه للمعقم ليكون بيدك في كل الأوقات. لا تصافح أحداً. هل يعقل ذلك كله؟ كيف وأنا سيد هذه القبيلة الصغيرة أضحيت مستكيناً لعقلية تنفيذ تلك الأوامر؟ أنا هنا الذي تصدر عنه الأوامر، خصوصاً البحث عن «الريموت كونترول»! سألتزم بالطبع ما دام الأمر بهذه الخطورة. هل أنا بتلك الفتوة التي تلهمني الاستبسال في مقاومة نزلة البرد العادية، ناهيك عن وحش «كورونا الجديد» العاتي. لا يهمني ما يقوله مصطفى سعيد؛ بل تهمني نفسي. واحدة من المرات النادرة التي يستحسن أن أكون فيها أنانياً، محباً لنفسي، مؤثراً سلامتي، إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً. الموظفون في مطار هيثرو يستقبلون المسافرين بمودة وابتسامات تمحو القلق الناجم عن الظرف العصيب. بعضهم يتحدثون من وراء الكمامات. وآخرون بمظهرهم المعتاد كأنهم لا يخشون شيئاً. على متن الطائرة عدد كبير من المسافرين السعوديين. لا حديث سوى كورونا الجديد. الإقلاع، إطفاء الأنوار.. النوم العميق أفضل دواء للقلق. قبل النوم وزعت علينا المضيفة نموذجاً للإفصاح من السلطات الصحية السعودية. يورد الإفصاح أكثر من 14 دولة مطلوب من المسافر أن يفصح عما إذا كان قد زارها خلال الفترة القريبة الماضية. وحين أشرقت شمس جدة، وهبطنا على أرضها، رأينا من الإجراءات ما لم نره في مطار هيثرو الذي يعد أحد أكبر مطارات العالم. وجدناً فريقاً طبياً كاملاً في استقبالنا. تم أخذ درجة حرارة كل مسافر. وتلقينا نموذجاً آخر للإفصاح فقمنا بتعبئته. وخرجنا بحفظ الله ورعايته، لأجد المدينة وقد تغيرت تماماً، من حيث إجراءات مواجهة كورونا الجديد الذي أضحى وباء عالمياً. المعقمات، القفازات، العمل عن بعد، العزل الاختياري.. وهي إجراءات سبقت بها السعودية الدول الكبرى التي رأينا كيف تأخرت في تطبيقها فوقعت ضحية لاستشراء الوباء القاتل. أما مصطفى سعيد فقد تركته في لندن، حيث يقوم بتسوية بقية حساباته مع الكولونيالية.. لكنه هذه المرة سيضطر إلى مواجهة الكولونيالية.. و«كورونا الجديد». فهل سيخرج منتصراً؟! وبالنسبة لي، فقد رأيتُني عائداً إلى حيث يطيبُ عيْشي.. وفي ذهني قول محمد سعيد العباسي: يا من وجدتُ بِحيِّهم ما أشتهي هل من شبابٍ لي يُباعُ فيُشترى؟ ولَوَ أنّهم ملَكوا لما بَخِلوا بهِ ولأرجعوني والزمانَ القهقرى لأظلَّ أرفلَ في نعيمٍ فاتني زمنَ الشبابِ وفتُّه مُتحسِّرا هذا كله قبل أن تتغير الأوضاع في لندن بصورة دراماتيكية منذ أن غادرتها. وأضحت مهددة بالإغلاق التام. نسأل الله السلامة للجميع من كل شر وأذى.