في كانون الأول ديسمبر العام 1999، لفتت انتباهي في احدى مكتبات مطار هيثرو طبعة جديدة، صغيرة وأنيقة من رواية الالماني هيرمان هيسه "ذئب البوادي" .Steppen wolf جنيه واحد للنسخة، فاشتريت ثلاث نسخ من الكتاب الجميل. وأنا اقرأ الرواية في الطائرة، شعرت بالتعب من فرط الاكل والشرب. وضعت "ذئب البوادي" جانباً، ورحت اشاهد بالفيديو فيلم اI got mailب لم يعجبني الفيلم وتأسفت ان يكون ممثل ممتاز مثل توم هانكس مشاركاً فيه. ولما كانت السيدة الجالسة الى جانبي تنظر بين لحظة واخرى الى الكتاب الموضوع على الطاولة، سألتها ان كانت ترغب في قراءة هيرمان هيسه. ابتسمت السيدة ابتسامة كبيرة وقالت "بالتأكيد، انها لسعادة كبيرة ان أعود الى قراءة ستيبن وولف". فقلت وأنا أعطيها الكتاب "يمكنك الاحتفاظ به، كهدية" وأضفت "عندي في الحقيبة نسختان أخريان". "من الكتاب نفسه"، قالت السيدة مندهشة. "نعم، من الكتاب نفسه". في نيويورك استقللت القطار مباشرة الى نيوهيفن كونيكتيكت لزيارة الصديق الاكاديمي الفلسطيني في جامعة ييل، بسام فرنجية. كانت المسافة قصيرة، وبدلاً من القراءة رحت أستمتع بمشاهدة ضواحي نيويورك. بعد يومين تذكرت "ذئب البوادي" فاخرجت من حقيبتي نسخة لاقرأها في احدى حدائق جامعة ييل. وهناك تعرفت الى البروفسور جيمس بونيت، رئيس مركز الدراسات اليهودية في الجامعة، وقد دعاني الى الغداء. وتحدثنا عن السياسة في الشرق الاوسط. كان السيد بونيت متحمساً وهو يتحدث عن امكان السلام بين الفلسطينيين والاسرائيليين. ونحن في المطعم الخاص بطلبة مركز الدراسات اليهودية، انتبه احد الطلبة الى رواية هيرمان هيسه. فوصفها بانها "عظيمة"، واسهب في شرح تقنيات تلك الرواية التي "نشرت للمرة الأولى في العام 1924 وترجمت الى الانكليزية في العام 1926" أخذتني الحماسة فاهديته الكتاب، قائلاً: "عندي نسخة اضافية في البيت". وقطعت في سري وعداً ألا أفرط بالنسخة الثالثة الاخيرة. في الليلة الاخيرة في نيوهيفن، كنت في منزل الاكاديمية النرويجية أولا كاستن، التي أخبرتني، بعدما علمت انني مقبل على السفر الى سان فرانسيسكو، ان هناك رحلة شيقة عبر القطار من نيويورك الى سان فرانسيسكو تستغرق أربعة أيام. "من الساحل الجنوبي الى الساحل الغربي" عبر سلسلة جبال "روكي" قالت السيدة كاستن، واضافت: "سوف ترى الروكي ماونتينز وسهوب ووديان ومدن وقرى وأنهار سبع ولايات". ولكن ماذا افعل بتذكرة الطائرة نيويورك - سان فرانسيسكو؟ سألت نفسي وأنا افكر جدياً في رحلة القطار. ولم أحسم الأمر الا بعد ان ذهبت الى الحانة القريبة من محطة بنسلفانيا، وبعد ساعة تركت الحانة وأنا أمزق تذكرة الطائرة. قائلا: "أربعة أيام ستكون كافية لقراءة "ذئب البوادي"". هكذا اعتقدت. أجد صعوبة شديدة في نقل مشاعر الفرح التي انتابتني وأنا أجلس في القطار قضيت عمراً اسمع عن القطارات الاميركية الواسعة، واشاهدها في الافلام فقط. جلست قرب النافذة متفرجاً على المسافرين في "بنسلفانيا ستيشن" كل شيء سينما بالنسبة إلي. بعد دقائق جاءت مراهقة سمراء وجلست في المقعد أمامي. ثم لمحت سيدة أم المراهقة بملامحها الاميركية اللاتينية، تذرف الدموع وتقبل ابنتها عبر زجاج النافذة. انها تودع صغيرتها. فيما بعد سأعرف ان البنت مسافرة لتقيم عند أبيها المطلق. "أحب العيش في كاليفورنيا، سئمت نيويورك". ستقول لي جينيفر. "انتبهي... انتبهي" تصرخ الفتاة محذرة والدتها التي كانت تبكي وهي تلتصق بزجاج النافذة، فيما القطار يتحرك خارجاً من أضواء محطة بنسلفانيا، الى الليل الاميركي الشاسع. اخرجت نسختي الاخيرة من "ذئب البوادي" وتمددت في المقعد الانيق الواسع، ورحت اطالع الرواية بمتعة كبيرة، فجأة، اقتحم مقصورتنا شاب أفرو - أميركي في مستهلّ العشرين من عمره، يرتدي ثياباً أنيقة، ظل يروح ويجيء وهو يتفرس في وجوهنا، ثم أخذ يتحدث بصوت عال، وفي شكل استعراضي. قال انه يعمل كاتباً، ولكن النشر في الفترة الاخيرة اصبح صعباً، وان "الناشرين لا ينشرون الا الكتب السيئة لبعض الاسماء المتكررة... الخ". واضاف الشاب الذي يذكرنا بشباب الممثل سيدني بواتييه، انه سيقرأ لنا مقاطع من قصصه، يتمنى ان تنال اعجابنا. وهو لا يطلب اكثر من قطعة نقدية صغيرة، او سيجارة واحدة "اذا اردتم". بدأ الشاب يقرأ النص الذي كان بين يديه، بطريقة مسرحية، اثار الانتباه منذ السطور الاولى، وكان يحدق في عيون المسافرين ويقرأ كلمات صارمة، عن أجواء شديدة الغرابة. كانت طريقة قراءته بالفعل مدهشة. كنت استمع اليه يقول: "شددتُ قبضتي على الكأس الذي أرادت صاحبةُ الحانة أن تملأه لي مرة أخرى، ثم نهضت لأنني لم أعد بحاجة اليه. لقد ومضَ الأثرُ الذهبي فجعلني أتذكر ما هو أبدي، فتذكرت موتسارت والنجوم. ومن جديد أصبحت قادراً على التنفس ساعة، بل أصبحت قادراً على الحياة وعلى الوجود، فلم أعد أعاني هول العذابات والخوف ولم أعد أشعر بالخجل. كان الرذاذ المشبع بالرياح الشديدة البرودة يصلُّ حول المصابيح ويلمعُ مولّداً بريقاً زجاجياً عندما خرجت الى الشارع الذي بات خالياً تماماً. والآن الى أين سأمضي؟". منذ الوهلة الاولى، شعرت ان هذا النص ليس غريباً عليّ. لقد قرأت شيئاً شبيهاً بنص هذا الشاب منذ وقت قصير جداً. ربما كنت سأمكث صامتاً في مقعدي، لولا ان الشاب تابع قراءة نصه، وذكر اسم "هاري هالر"! عندها تيقنت تماماً ان "كاتبنا" انما يقرأ مقاطع من "ذئب البوادي". بعد 15 او 20 دقيقة توقف الشاب عن القراءة وراح يجمع "المكافآت" وسط كلمات الاعجاب والتصفيق. وحين اقترب مني، اخفيت الكتاب الذي كان بين يدي، وصفقت للشاب قائلاً: "ان النص رائع حقاً". فرد عليّ: "هناك بعض الهنات، لو كان عندي الوقت لأعدت كتابة النص ثانية". فقلت له ضاحكاً: "معك حق، يبدو النص قديماً شيئاً ما". "ماذا تقصد؟" سألني باستغراب. "لا شيء، فقط أحسست انك كتبته منذ زمن طويل" أجبته. "متى نصل الى ساكرمنتو" سألت جينيفر من مقعدها. "في الاسبوع المقبل" رد الشاب ضاحكاً، وهو يبتعد، بعد أن اعطيته علبة سجائر انكليزية. كان علينا ان ننتظر ست ساعات في شيكاغو، قبل ان نستقل قطاراً آخر، ينطلق من شيكاغو الى سان فرانسيسكو في رحلة تستمر ثلاثة ايام، يمر القطار في ولايات إلينوي، آيوا، نبراسكا، كولورادو، يوتاه، نيفادا وكاليفورنيا، اقترحت على جينيفر ان تأتي معي لنقضي بعض الوقت في المدينة. فقالت لي ان امها حذرتها من مخالطة الغرباء. فقلت لها: - أمك على حق، ولكنني شاب طيب، هيا تعالي معي ادعوك الى البيتزا. - "سوف تموت أمي من الخوف لو علمت انني أسير بصحبة شخص غريب". قالت جينيفر وهي تتبعني. واخبرتني انها ذاهبة للاقامة مع والدها في ساكرمنتو، لانه يريدها ان تكمل دراستها تحت رعايته "ولا يرغب في رؤية أمي". وبعد ان انتهينا من البيتزا، قلت لها: "الأم أفضل من الأب". فسألتني: "ماذا تقصد؟". فقلت: "لا تنسي أمك". ثم عدنا الى المحطة، فدخلت جينيفر صندوق التلفون العمومي، ظللت انظر اليها من خلف زجاج الصندوق، كانت هادئة للحظات، ثم بدأت تتحدث وتقوم بحركات عنيفة بيديها وتضرب بقدميها صندوق التلفون، واعادت السماعة بعنف الى مكانها، وخرجت تجهش بالبكاء. "لماذا تبكين. ماذا حدث؟" قلت لها وأنا أتجنب لمسها. "أمي غاضبة جداً لأنني ذهبت معك الى البيتزا، قالت انها ستقتل نفسها". ثم اضافت وهي تمسح دموعها وتنظر الي: "لقد وعدتها ألا اتحدث معك ثانية، ارجوك اتركني". "حسناً، حسناً، ولكننا الآن في محطة القطار". "اذا كنت طيباً، دلني الى القطار الذاهب الى ساكرمنتو". فأخبرتها اننا سنستقل القطار نفسه وان ساكرمنتو قبل سان فرانسيسكو بمحطتين أو ثلاث. في القطار الذاهب الى سان فرانسيسكو، تعرفت فوراً الى مجموعة من المسافرين الجدد. سامنثا وصديقها نايغل من انكلترا، ذاهبان للزواج في لاس فيغاس. نورمان، الاميركي المتقاعد الذي فقد احدى عينيه اثناء العمل، ذاهب الى ساكرمنتو. وثلاث فتيات، واحدة استرالية في جولة سياحية، وفتاتان اميركيتان ذاهبتان الى سان فرانسيسكو تبحثان عن فرصة للغناء. ثم التحق بنا شاب اميركي، ومع الوقت اصبحنا "عصابة" مكونة من اكثر من ثلاثين شخصآً. وباستثناء اوقات النوم، فاننا كنا نقضي معظم الوقت معاً... كنا نشرب طوال النهار "المارغريتا" ونرتاد المطعم معاً، فيما القطار يجتاز السهول والجبال والانهار والمدن بين سماوات غائمة ومشمسة وممطرة. نورمان، أو نورمي، صار اقرب الاصدقاء الي. قلت له انت تشبه الكاتب الاميركي جيم هاريسون، فقال لي: "أنا اعمل في البريد، ولا اعتقد ان هناك فرقاً كبيراً بين الكاتب وساعي البريد". فضحكت سامنثا وقالت انها ذاهبة الى الاLooب فسألني نورمي: "الى اين ذهبت سامنثا؟". قلت له: "الانكليز يقولونLoo ، للتواليت". ضحك وقال: "لقد تعلمنا شيئاً في هذه الرحلة". في ما بعد نظر نورمان الينا جميعاً، وقال ضاحكاً: "انا ذاهب الى اLooب، وظل يضحك وهو ينزل السلالم المعدنية الى الطابق السفلي". في صباح اليوم الثاني، وصل القطار الى محطة دنفر عاصمة كولورادو، ولما علمت ان القطار سيتوقف نصف ساعة. اخذت كاميرتي ونزلت لأصور المحطة، من الداخل والخارج، كانت لي صديقة اميركية - ايطالية تقيم في دنفر، وقد حدثتني في رسائلها مراراً، عن هذه المحطة. وعندما عدت، سألني نورمي: "هل ستكون في القطار غداً؟". فقلت له: "هل نسيت انني ذاهب الى سان فرانسيسكو". هز رأسه معتذراً. ثم قال لي بصوت خفيض "أريد أن تشاركني في شيء حميمي جداً، شيء يخص عائلتي". "بالطبع، نورمي، ان كان يخص عائلتك". قلت ذلك ونزلت الى البار في الطابق السفلي وجلبت كمية من علب "المارغريتا" وبضع كؤوس بلاستيكية وسطلاً مملوءاً بقطع الثلج، جلسنا في المقصورة الزجاجية، نشرب المارغريتا ونتفرج على الطبيعة الساحرة لجبال كولورادو ووديانها، من المقصورة الزجاجية المخصصة للفرجة، كان بامكاننا ان نرى مؤخرة القطار طالعة من بطن جبل، فيما تخترق المقدمة جبلاً آخر من "الروكي ماونتينز". وظل نورمي يكرر جملته "تشاركني في اشياء تخص العائلة" اكثر من مرة وبالحميمية نفسها. كان يهمس لي "انه أمر خاص بيننا، لا أريده أن يكون عاماً". ومثل كل مرة كنت أهز رأسي مؤيداً. سامنثا وصديقها نايغل عاشا معاً 18 سنة، قررا أخيراً ان يتزوجا، ولهذا كانت سامنثا في غاية السعادة. كانت تحمل كاميرا فيديو وتصورنا طوال الوقت. كانت ترقص وتغني، تأتي بالمارغريتا وتصرخ "في صحة لاس فيغاس". ثم تنظر اليّ وتقول: "عزيزي صدام انت الذي بدأ مباراة المارغريتا" فنضحك جميعاً. عندها يقفز نورمي مدافعاً "اذا كان صديقي هو صدام فانت المسز ثاتشر". وعندما قلت لنورمي "ثاتشر افضل من صدام مليون مرة" شعر نورمي بخيبة "انني آسف، كنت اعتقد انني ادافع عنك". ونغرق في الضحك والمارغريتا. كان الوقت غروباً، حين جلب نورمي كوبين من المارغريتا "تعال تعال يا سام". ولحقت به بسرعة، جلسنا في المقصورة الزجاجية، واخذ يشير الى الخارج "انظر في هذا الاتجاه، انظر، ابق مفتوح العينين". مرت دقائق ونحن ننظر الى الاراضي الصخرية "لحظات وسوف ترى، انتظر ارجوك" يشير نورمي الى الصخور في الخارج. "لقد اقتربنا، نعم اقتربنا، كنت اعتقد ان القطار اسرع من هذا". نظرت الى نورمي الجالس قربي، لقد بدا سعيداً جداً، والعصابة السوداء تغطي عينه اليسرى. قلت له: "انت تشبه جيم هاريسون". ضحك "حسناً حسناً اقنعتني سوف اشتري رواياته"... ثم مسكني من ذراعي اليمنى وقال: "انظر، ارجوك يا صديقي العراقي، انظر، واحد اثنان ثلاثة، واحد اثنان ثلاثة، انظر، انظر الى هناك، هناك، نعم خلف تلك الصخرة، ذاك هو قبر زوجتي، ذاك ذاك" ظل ينظر باتجاه القبور المسافرة، الى ان التفت اليّ بعينين دامعتين، ضرب كأسه بكأسي وهتف "في ذكرى زوجتي". "انت بالفعل تشبه جيم هاريسون" قلت، وضحكنا. في سان فرانسيسكو كان الصديق سركون بولص في انتظاري، وقد رآني وأنا أودع الشاب الاسود، حين اقترب منا سركون، قدمت له الشاب قائلاً: "انه هاري هالر". فقال سركون بصوت هادئ كان خارجاً للتو من المستشفى: "ماذا يفعل "ذئب البوادي" في سان فرانسيسكو؟". "عمّ تتحدثان؟" سأل الشاب متعجباً. أخرجت كتاب "ذئب البوادي" من حقيبتي وقدمته له كهدية. فأخذ الشاب يقلب الكتاب مندهشاً "يا لها من طبعة انيقة" ثم نظر اليّ وقال ضاحكاً "شكراً لك، الطبعة التي عندي قديمة". "عمّ تتحدثان؟" سأل سركون بولص. "عن هيرمان هيسه الالماني" قال الشاب مبتعداً. المقطع المنشور من "ذئب البوادي" عرّبه من الالمانية حسين الموزاني. * شاعر عراقي مقيم في لندن.