قبضت الجهات المختصة أخيرا على 24 شابا بتهمة التحرش في إحدى الفعاليات الترفيهية، وأحالتهم للنيابة العامة لتمارس دورها الحضاري في التقاضي وفرض سلطة القانون. هذا الخبر يأتي ونحن نخطو خطواتنا الأولى في مدرج السلوك المتحضر الذي يحترم خصوصية الآخر وقيمته، فالمقياس الحقيقي لنجاح أي مجتمع هو مدى جذبه للناس للعيش فيه، وهذا ما أدركته بعض الدول النامية بعد أن كانت تتمسك بمظاهر التقدم المادي الخادعة التي كانت جاذبة للاستثمار والصناعة طاردة للبشر، وتحولت للاهتمام برفع قيمة الإنسان وسعادته وكرامته البشرية، وتمكينه من تحديد خياراته والسعي لتحقيقها وسط فضاء اجتماعي آمن مطمئن. إن التحرش لم يكن يوماً بسبب الشهوة الجنسية كما يصوره السطحيون، بل هو وسيلة إخضاع يعمد إليها كل ناقص ليصنع بها زيف كماله، وحيلة دفاعية يتملص بها من حقيقة نقصه، فالعلاقة طردية بين عقدة النقص وادعاء الكمال. كما أتمنى أن يخضع هذا العدد الكبير من الشباب لمشرط البحث العلمي الاجتماعي والنفسي للغوص في دوافع هذا السلوك المشين وعدم الاكتفاء بشكلياته السطحية، فكما أن القانون ضابط خارجي للسلوك المتجاوز، فإن للتربية والثقافة الاجتماعية دورا مفصليا في صناعة ثقافة التحرش، من خلال تكوين صورة ذهنية مشوهة لدى الفرد عن ذاته والآخر، وحدود كل منهما، وتسويغ الاعتداء على الآخر وكرامته. من الطبيعي جداً في البلدان التي يسود فيها القانون الذي يحمي خصوصية كل فرد وكرامته أن يكون هناك رأي واحد فقط لإدانة المتحرش، يتفق فيه الرأي القانوني مع الرأي الأخلاقي للمجتمع، ليشكلا كماشة تحاصر الشواذ، أما المجتمع المتناقض فلا مانع لديه من تسويغ التحرش، فيستبيح جسد الآخر وعرضه وخصوصيته، بل وينظِّر على تربيته وغيرته وسلوكه، متجاوزا محظورات الغيبة والنميمة وحرمة الآخر. إن المجتمعات المتوثبة للنجاح والصعود لقمم الحضارة لا يمكن لها أن تصعد إلا بصعود مستوى كرامة الإنسان وقيمته وأمنه النفسي، وهذا يتطلب وجود قوانين رادعة تكفل له الأمن من طغيان الجهل والتخلف الاجتماعي، فلا يمكن لخاضع لسلطة الجهل والتخلف الاجتماعي أن ينتج تقدماً، ولا تابع لقطيع أن يكون حراً.