رضا محمد لاري، مُثَقَفٌ عِصَامِيٌّ، مُتَعَدِدُ المَوَاهِبٍ... مُتَفَرِدُ الشخصِيَّةِ، حتى لا تُقَارَنُ شَخصِّيَتُهُ بغيرها، ويَصعُبُ أن تَجِدَ مَثِيلاً لَهُ في سُرعِةِ البَدِيهَةِ، والتعليقاتِ الساخرةِ الوَاعِيةِ الفَورِيَةِ، حتى أنَهُ احتَفَظَ لِنَفسِهِ بنوتَةٍ، يُسَجِّلُ فيها أسماءَ الغافِلِينَ، المنضمين للقائِمَةِ السوداءِ عندهُ. وكُلَمَا غضبِ من زَمِيْلٍ، أو صديقٍ، بادرهُ، متسائلاً: «هل سجَلتَ اسمكَ في النوتة؟!». ولا ندري إن كانت النوتَةُ حقيقية أم نسج خيالٍ، فكثيراً ما يختلطُ الجَدُ بالهزلِ، عند رضا لاري، لكنه في كل الأحوال، أضاف بُعداً جمالياً، على المغضوبِ عليهم، فنظمهم في نوتة موسيقية، بدلاً من تسميتها قائمة العارِ، مثلاً! وأيّاً تكن حقيقة وجود النوتة، من عدمها، إلا أن ذِكرها، يُعَبِّرُ عن الكاريزما، التي كانت تُحِيطُ بهذه الشخصيةِ النادِرَةِ، شخصيةُ رضا محمد لاري الذي رحلَ عن الدنيا دون أن يتأكد من حولَهُ، هل هناك نوتة موسيقية تعزف بأسماء المشاغبين؟ أم أن العزفَ، وإن كان نابعاً من عتبٍ، لا يُجاوزُ خيال صاحبنا الخصب، إبداعاً، وسخريةٍ، وعطاءً، رحمه الله. لاري، كان بحقٍ، «ابن بلد»، قريباً من الناسِ، يحملُ قلبَ طفلٍ، وروحاً شفافةً، يَألَمُ لآلامِ الناسِ، ويفرحُ لأفراحِهِم، مكتسباً تلكَ الشفافيةَ، من طبائِعِ أُسْرَتِهِ العريقةِ، في حارة الشام، بجدة، حيثُ وُلِدَ صاحبنا في 1938. عَمُّ رِضا، أحمد، ووالِدُهُ محمد، كانا من أَعيَانِ جدّة، ودَارُهُما مفتوحةً للقاصِدِينَ، والمُحِبينَ، مَزَارَاً للتُجَّارِ، والديبلوماسِيين. في هذه الأجواءِ... بينَ الناسَ، حيثُ الدُورِ المتلاصقة ببعضها البعض حدّ العناقِ، تَرَبى الأستاذُ رِضَا لارِي، وَكَبُرَ مع أَقرَانِهِ مِن أَبنَاءِ بُيُوتَاتِ جدّة، حيث كانت البساطَةُ سيدةُ الموقفِ، والناسُ في تكاتُفٍ، يجعلُ المُوسِرَ، يكون في حاجةِ المعسرِ، قبلَ أن يشكو الأخيرُ حالَهُ، وما كانتِ الشكوىَ هَيِّنَةً، فنفوسُ القومِ كبيرةٌ، لا يُصغِرُونَهَا بِغِيرِ التَعَفُفِ! بَدأت عِصَامِيتُهُ، حينَ التحقَ موظفاً في وزارة التجارةِ بالرياض، بمكتبِ مُقَاطَعَةِ إسرائيلَ، وإشراف الأستاذ عبدالله أحرار خوجة، مدير المكتب. وهناكَ اصطدمَ صاحِبُنَا، ببيروقراطِيةِ المَلَفَاتِ، والإضبَاراتِ، والسِجِّلاتِ، التي أخذ منها التَجرُبَةُ الأُولَى، فِي حَيَاتِهِ العِمَلِيَةِ، حتَّى غَادَرَهَا على عجلٍ، وفي حالةِ قَلَقٍ، وكأنه يتمثل بأبي الطيب: على قَلَقٍ كأنَّ الرِّيحَ تَحْتِي أُوَجَّهُها جَنُوباً أوْ شَمَالاً ثم صارَ طالباً في كليةِ الحقوقِ بجامعةِ القاهرةِ، وكانت من أبرزِ محطاتِ حَيَاتِهِ كُلِّهَا. في رحاب باحات ومدرجات الجامعة التأم شملُه مع كَوكَبَةٍ مِن زُملائِهِ السعوديينَ البارِزِينَ، الذين تسنموا -فيما بعد- سُدّةَ المناصبِ الديبلوماسيةِ السعوديةِ، مثل: الدكتور نزار عبيد مدني، عبداللطيف ميمني، حامد يحيى، وجعفر غازي، وغيرهم، رحم الله الأموات، وحفظ الأحياء. لم تجمعهم مدرجات الجامعة، فحسب، بل جمعتهم اللقاءات في مساكنهم، حيثُ لا يَفْتُرُونَ عن النقاش، وتبادل الآراء، وأحياناً تصارع الآراءِ، في المسائل كلها، والقضايا جلها، عبرَ حِوَارَاتٍ جَّادَّةٍ، موضوعها ما يدور في محيط المجتمع المصريِّ خصوصاً، والعربِيِّ عموماً. كان المناخ العام بمصر، أوائل الستينات الميلادية، يموج بالأفكارِ المتلاطمةِ، ويعِجُ بالقضايا المتباينةِ، ويمتلئُ بالصراعاتِ الفكرية، وتياراتٍ تبدأُ بأقصى اليمينِ، ولا تنتهي بأقصى اليسارِ، مما انعكس على المجتمعِ، ومكوناتهِ، كلها. عاش الأستاذُ رضا لاري، وزملاؤهُ تِلكَ الفَترَةَ بِقَضِها وقَضَيِضِها، بواقعها كله، بإِيجابِياتِهِ وسلبياتِهِ، وهي مرحلةٌ أنجبت مِنهُم مُفَكِرِينَ، وأصحابَ رأيٍّ، ومَلأتهُم وَعياً، فلا غروَ أن تكونَ تلكَ الفترةُ، أخصبَ محطاتِ حياة رضا كلها، فهي مرحلةُ التشكلِ، وفورةُ الأفكارِ، وحماسةُ الشبابِ وفتوتهِ! كانت شخصيةُ رِضا الكاريزماتيةِ، تشكلت آنذاك، بهَالَتِهَا الجَاذِبَةِ، وتَمَيُزِهَا بحس الدُعَابَةِ العَمِيقَةِ، وبَدَهِيَةِ التَعلِيقَاتِ العَفَوِيَةِ السَرِيعَةِ، التي لا تَمُرُ، على مِثلِهِ، مُرورَ الكِرَامِ. احتفظ رضا، وهو طالبُ الحقوقِ، بالحُضورِ الآسرِ ذاته، بين زملائه وأقرانِهِ، مُستخدماً أساليبَ السخريةِ ذاتها في التعبير عن آرائِهِ، وخَلَفَ كُلِّ ساخِرٍ نظرياتٌ من أَلَمٍ، وأَفكارٍ كالأَموَاجِ تتَسَتَرُ بالنُكتَةِ. لم يكن آنذاك، بعيداً عن مُعلِمِيهِ وزُمَلائِهِ، فأُعجِبَ بأطروحاتِ الدكتور حامد ربيع، وبُطرس غالي، وغيرهما، واطَلَعَ على ما يكتب من دراساتٍ، فترة الرئيس جمال عبدالناصر في قضايا السياسةِ والحقوق، وهو ما ظهرَ أَثَرُهُ، في فتراتٍ لاحقةٍ من حياتهِ الديبلوماسيةِ والصحافية، مُشَكِلاً آراءَ رضا لاري، في اتفاق «كامب ديفيد»، وغيرها من قضايا الصراع العربي- الإسرائيلي. التحق عقب التخرجِ، معَ ثُلَةِ من الزملاءِ، بوزارة الخارجية، فعُيِّنَ في الإدارةِ العربيةِ فترةً، ثم عُيِّنَ في عدد من السفاراتِ السعودية، أَوَلُها بإسبانيا، فالسنغال، وتردد على موريتانيا، وغيرها، حتى عاد أدراجه إلى الخارجيةِ بجدة، بعد أن ملَّ التسيارَ، من بلدٍ إلى بلدٍ، جامعاً ثروةً من التجارب الديبلوماسيةِ، والسياسيةِ. حينَ أقنَعَهُ صَدِيقُهُ المرحوم علي حسين شبكشي بالعملِ رئيساً لتحرير «عكاظ»، عام 1975، يوم كان مقرها بشارع الميناء بجدة، انتقل لاري إلى مرحلةٍ جديدةٍ، من الديبلوماسيةِ إلى الإعلام. بدأت مَكامِنُ التَمَيُّزِ، وآثِارُ التجاربِ السابقةِ، والقدراتِ السالِفَةِ، تَظهَرُ على حياةِ، رضا لاري، منعكسةً على أدائهِ الصحافِي. تميزت «عكاظ»، فترةَ رئاسَتِهِ من الناحية السياسيةِ والمجتمعيةِ، والعجيبُ أنهُ دفعَ للتميزِ ثمناً باهظاً أدى إلى توقيفهِ عن الكتابةِ مراتٍ عديدة، وصلت إلى نحو 37 مرةً! تارةً لأسبابٍ متعلقةٍ بكتاباتِه النارية السياسيةِ، مثل موقِفِهِ الحادِ من الرئيس السادات إثر «كامب ديفيد»، أو انتقاداته الاجتماعية التي لم تكن ترضي كثيرين، فيكُونُ الإيقافُ مَصيرَهُ، وهو القائل: «أوقفت 37 مرةً، وفي المرة التي تليها مَسَكتُ البابَ!». ومسكتُ الباب، تعبيرٌ عاميٌ سعودي. يعني الطرد من العمل. والحَقُ أن الأستاذ الراحل كان يُعبر عن رأيهِ بحِدةٍ، ما يكونُ الإيقاف معها طبيعياً، ولأن الرقيبَ اعتادَ وقفَهُ، كان يُوقِفُهُ أحياناً على ما لا يستدعِي الإيقاف، فاسمُهُ بات مرتبطاً بالوقفِ ولو لم يكن الموضوعُ كذلك! نُقل لاري بعدها إلى صحيفة (سعودي جازيت) 1985، بعد أن أنهكه مرض السكر، ومع ذلك واصل العمل إلى 1998، وشغل كذلك منصب المدير العام المكلف لمؤسسة «عكاظ» للصحافة والنشر حتى عام 1995، وبعد مغادرتِهِ الصحافة، ظلت شخصيتهُ اللاذعةُ المُحَبَبَةِ ملازمةً له، فاستأنست به المجالسُ الخاصةُ والعامة. بقي رضا لاري حتى وفاته، رحمهُ الله، محبوباً، نبيلاً، وصادقاً مع نفسه، مؤمناً برسالةٍ، لم يَحِد عنها طيلةَ حياته، رغم اختلاف الناس عليها، وبالتالي اختلافهم عليه! بدايات ذلك الزمان بعيداً عن الديبلوماسية، وقبل الحديث عن رحلته الصحافية العريضة حتى قبل ساعةٍ من إصابتهِ الأخيرةِ التي نقل منها للمستشفى قبل أن يغادر إلى رحمة ربهِ، كان الأستاذ رضا لاري وفياً لحارة الشام، لبداياتِ الطفلِ الصغِيرِ فيه. المثقفُ الديبلوماسي الصحافي الذي أتقن اللغة الفرنسية، وتميّزَت لغتهُ الإنجليزية، وكتبَ بعلوِ كَعبٍ باللغةِ العربيةِ، كانت بداياتُهُ مَحفُورَةً في ذاكرةِ الطفلِ المشاغبِ النبيهِ، فهو لم يتخرج من مدارس الفلاح، كما جرت العادة حين تكتبُ سيرةُ وجهاءِ الحِجازِ وشبابه، لكنه يذكُرُ جيداً أيام الكُتّابِ الأولى، فالشيخُ علي هلال -رحمه الله- الذي يدين له بكل ما حفظه من القرآن الكريم، كان حاضراً على الدوام في ذاكرة صاحبنا، فقد أرسله والده صغيراً لينهل من علم الشيخِ الذي كان يُدَرِّسُ مع القرآنِ الكريمِ قواعد اللغةِ العربيةِ، وأساسيات الحساب. زامل الأستاذ رضا، يوسف ناغي، وعدنان سمان، وآخرين. لم يكن الشيخ علي هلال مُعلِماً فقط، بل كان مُرَبِيَاً، فهو لم يكن يقبل من طلابهِ، حين يقابلونه في السوقِ، أو في دروب جدة الضيقة، وقتها، إلا تقبيل يَدِ مُعَلِمُهم القرآن، فحتى بعد أن ابتعثَ والد الأستاذ رضا لاري ابنه إلى كلية فيكتوريا العريقة، وعاد الابن موظفاً مرموقاً في الخارجيةِ، حدث أن قابل الشيخ علي هلال في السوق، فما كان من الشيخ إلا أن مدَ يده وسط السوق ليقبلها التلميذُ، فقبلها مباشرة الأستاذ رضا لاري، وحين وصل إلى بيتِ العائلةِ الكبيرِ، وجد الشيخ علي هلال جالساً في صدر المجلس بجوار والده، فأمره الوالد بتقبيل يد شيخهِ، وقال له الجملةَ، التي بقيَ الابنُ يحفَظُهَا عن أبيهِ: «إذا أردتَ رِضايَ حياً وميتاً يا رضا فعليكَ بتقبيلِ يدِ شيخِكَ ما حيِيِتَ». من لا يُتقِن ممارسةَ الأخلاقِ، سُلُوكَاً، فلن يَسمُو بِهِ عِلمٌ، ولن ترفَعُهُ وَظيفَةٌ، ولا تزِيدُهُ المَراتِبُ عُلُوّاً! عاش الشيخ علي هلال عشراً من السنين، بعد وفاة والدِ الأستاذ رضا لاري، وبقيَ رضا وفياً لعادتِهِ القديمةِ، فكلما رجع الديبلوماسي، أو الصحافي الكبير إلى جدة، وقابل شيخَهُ قَبّلَ بِكُل مَحَبّةٍ يدَ الشيخِ المُرَبِى، حتى رحلَ الثلاثةُ كُلُهُم، رحمةُ اللهِ عليهم. من حارة الشام إلى «الكلية الاستعمارية» «الفرق بين العمل الديبلوماسي والعمل الصحافي، رغم كل التقاطعات البينة هي اللغة المستعملة في الجهتين»، ففي الصحافة تستطيع أن تستعمل المجاز، وتستطرد، وتصف، ما دمتَ تبحثُ عن الحقيقة، لكن الديبلوماسية -على الورق- لا تقبلُ بغير الوضوح، كما يؤمنُ، رضا لاري، ويؤكد دائماً. ويبدو أن طيفَ الشيخ علي هلال، لم يفارق الفتى الحجازي، الذي يقول عن «فيكتوريا كوليدج» بالإسكندرية، تلك التي واصل دراسته فيها حتى الصف الأول ثانوي: «كانت كليةً استعماريةً، لم تكن تبشيريةً مثل كمبوني في السودان، لكن الأسر والممرات والصفوف كانت تسمى بأسماء ضباط إنجليز حكموا مصر»، ومن إنصاف الأستاذ أن اعتباره كلية فيكتوريا «استعمارية»، لم يمنعه من مدح طريقة التدريس فيها، القائمة على التفكير والنقد. يقول لاري للأستاذ الزميل محمد رضا نصرالله، في لقاء تلفزيوني ممتع: إن التاريخ الذي كان يُدَرّس في فيكتوريا كان تاريخاً استعمارياً -أي من وجهة النظر الإنجليزية- لكننا كنا نذهب للبحث، ونقرأ أكثر، بعد كل حصة تاريخ، لكي نكتب الحقيقة، على ورقة الإجابة في الاختبار النهائي، ولم يكن يمنعهم ذلك من منحنا الدرجات الوافية، ما دمنا نناقشُ لحظةً تاريخيةً تختلف فيها وجهات النظر. ليس ذلك فحسب، بل لأن رضا لاري، لم يكن السعودي الوحيد في تلك الكلية، فقد كان من زملائه: محمد شرفي، والشربتلي، وعبدالله وسالم الخريجي، وزاملهم من ليبيا رئيس وزرائها لاحقا الشلحي، والملك حسين ملك الأردن الراحل، فقد ضغطوا على المدرسة حتى أصبحت صلاة الجمعة تقام في الكلية، ومن ثم تكفل آباء الطلاب المسلمين، بمعلمِ دينٍ إسلاميٍ، يأتي نهار الأحدِ؛ ليُعَلِمَ الطلبةَ الثقافةَ الإسلاميةَ في كلية فيكتوريا العريقة. لحكايةُ تقبيل يد الشيخِ، وصلاةُ الجمعةِ، ودرسُ الدين الإسلاميِ كل أحدٍ، أثرٌ واضحٌ، لمن يتتبع شخصية رضا لاري، كما سيأتي. الرجل الذي يتعلم ليلاً عاد الفتى، الذي لا يجاملُ كثيراً في الحقِ، كما عُرفَ عنهُ، من مصرَ، بشهادة الأول ثانوي، وفَضَّلَ العملَ، بوزارة التجارة على العودة لمصر، لكن طُمُوحَهُ لن يتوقفَ عند هذا الحدِ... كانَ عصامياً يحاسب نفسه جيداً في كل مرحلة؛ لذا تمكن من إكمال المرحلة الثانوية، وحصل على التوجيهية ليلاً، مستفيداً من المدرسة الليلية المجاورة، ومن ثم عادت به الأسفار إلى مصر ثانية ليلتحق بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة القاهرة، مقصد أبناء ذلك الجيل، لتنتهي فترة الستينات وقد تحصل الفتى على ما يريد. الأهم من ذلك كله أن ابنة عمه المرحومة سميرة لاري أهدته آنذاك كل الكتب المقررة على طلبة البكالوريوس والماجستير بكلية الإعلام في جامعة القاهرة ليتفرغ تسعة أشهر يغوص ساهراً ليله في الكتب، متعلماً الصحافة -بنفسه- بعد أن ينهي فروض طالب الاقتصاد والعلوم السياسية المنتظم، الأكثر دهشة من ذلك أن رضا لاري كان يأخذ كل سنة -إجازة من غير راتب- فيقضي السنة الدراسية كلها في جامعة القاهرة ثم يباشر عمله صيفاً في جدة، مناوباً بين مدينتين ومتنقلاً دائماً بين تخصصين حتى بدأ مشواره الوظيفي في سلك الخارجية. قنصل وقائم بالأعمال «لم أصل إلى رتبة سفير في الخارجية، بل كنت قنصلاً وقائماً بالأعمال، وأنا سعيد جداً لأني تركتها فلم تكن بالمجدية مادياً، والأهم من ذلك أن الذي تعلمته في الحياة كلها في كفة والذي تعلمته من، وفي، الصحافة في كفة أخرى». رضا لاري الذي عمل قنصلاً عاماً في مدريد ومن ثم انتقل إلى داكار عاصمة السنغال ليكون القائم بالأعمال يختصر تجربته الدبلوماسية بأنها علمته ألاّ مستحيل، فهي فن الممكن وما لا تستطيع أن تنجزه اليوم تطوله غداً لو أعدت النظر واستعملت أوراقك التي لا تنتهي. يقول بصراحته الواضحة: الدبلوماسية تجتمع مع الصحافة أيضاً في أنها فن الجاسوسية النبيل، فالدولة التي تقيم فيها إن أتقنت لغة أهلها وقرأت أخبارها جيداً ستساعدك في كل ما تحتاجه لتطور علاقة بلدك بذلك البلد. احتفظ صاحبنا بثقته الدائمة في نفسه حين قابل سنغور -الشاعر ورئيس السنغال الشهير- فقد كان من عادة سنغور أن يخصص خمس دقائق لكل دبلوماسي حين يقابله، وعندما سلم على رضا لاري قال مستشار سنغور للرئيس: هذا سفير البلد الذي يستنزف مواردنا المالية برفع أسعار النفط، فنظر إليه الرئيس السنغالي وقال لرضا: لماذا لا تخفضون سعر البرميل؟، فابتسم صاحبنا الداهية وبسرعة بديهة يحسد عليها قال: سعر برميل زيت الفول السوداني أغلى من سعر برميل النفط سيادة الرئيس، نتمنى عليكم أن تخفضوا سعر زيتكم لننظر في سعر برميلنا. وأشيع مرة أن رضا لاري طلب ميزانية ضخمة لسفارة المملكة في إسبانيا كي يواجه نفوذ السفير الإسرائيلي هناك، لكن دارس العلوم السياسية رضا لاري يقول إن جزءاً من المعلومة غير صحيح، فإسرائيل وقفت أمام انضمام إسبانيا للأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، ولكني طلبت شيئاً من هذا القبيل في داكار، إذ كان البند السري لمصروفات السفير الإسرائيلي يصل إلى خمسة ملايين دولار، مما أتاح له دعم وإنشاء ما كان يسمى حينها (جمعية السنغاليين المثقفين في العالم العربي)؛ ليوسع نفوذ دولته في بلد 98% من سكانه مسلمون، ولم أكن لأقف عند دبلوماسية الحج والعمرة فقط وأنا أرى إسرائيل تتوغل بعيداً في أفريقيا. إلى بلاط صاحبة الجلالة أنهى رضا لاري علاقته بالدبلوماسية ليتفرغ للترجمة بحكم إجادته للفرنسية والإنجليزية والإسبانية، كان رئيس تحرير «عكاظ» وقتها الراحل عبدالله الجفري رحمه الله، وبقدرة قادر رشح رضا لاري لرئاسة تحرير عكاظ، علق لاري قائلاً بخفة دمه المعتادة: «وتحول هذا الترشيح غير المتوقع إلى حقيقة واقعة بقدرة قادر»! وكما كتب أحمد عزوز في الشرق الأوسط (26/2/2017): «كان لاري يمثل ل«عكاظ» قاموساً متعدد اللغات، بحكم إجادته لعدة لغات حية، إضافة لامتلاكه حصيلة سياسية واقتصادية جمة ناتجة عن دراسته الجامعية، مما أهله عن جدارة للترشح لرئاسة تحرير «عكاظ» التي كان التنافس حاداً بينها وبين صحيفتي الرياض والجزيرة»، ليس رضا لاري من يأتي أو يرحل دون أثر، فقد نقل «عكاظ» بالأرقام من عشرين ألف نسخة إلى ستين ألف نسخة على مستوى التوزيع، بل ويقول بالحرف الواحد: «نقلت «عكاظ» من شبه جريدة أدبية إلى صحيفة خبرية سياسية»، ورغم اعترافه بأن توقيعه كان يسمى التوقيع الذهبي لأنه لا يرد أبداً فإنه يعيد الفضل لروح الفريق التي آمن بها في العمل الصحفي، فلاري هو صاحب فكرة «رئيس التحرير اليومي» بمعنى أن الصحفي الذي ينشر أفضل مادة صحفية يكون رئيس الجريدة يومها، وله الفضل في تعيين أول رئيسة تحرير للقسم النسائي حين أسند المهمة للأستاذة سارة القثامي وهو القائل: «اسألوا هاشم عبده هاشم لماذا أنهى تلك المرحلة؟!». السادات وكامب ديفيد في ثلاث صفحات من «عكاظ» كتب رضا لاري مقاله الشهير «فرص السلام في الشرق الأوسط»، وطلب من وزير الإعلام حينها الدكتور محمد عبده يماني الذهاب لإسرائيل من أجل تغطية الحدث التاريخي، أخبره الدكتور يماني بأن هذا ممنوع، لكن رضا يقول بأنه تأثر جدّاً بخطاب السادات الذي ألقاه في الكنيست، ورأى في ذلك الخطاب فرصة لإقامة دولة فلسطينية ولو بعد حين لذا تحمس جدّاً وكتب خطابه المفتوح الشهير الذي يساند فيه السادات بوصفه مواطناً عربياً.. يردف قائلاً بعد أن مرت السنوات أنه سمع السادات يقول بعظمة لسانه: «زهقت وعشان كذا وقعت اتفاقية كامب ديفيد»، فاستشاط غضباً وكتب مقاله الذي أعرب فيه عن إحباطه بعد تفاؤله، ولأنه لم يسمح له بالسفر إلى إسرائيل فقد سافر إلى الإسماعيلية لحضور المؤتمر الصحفي المتعلق بكامب ديفيد، لكنه لم يجد وفداً فلسطينياً ولا وفداً سورياً رغم قناعته بأنه كان يمكن للعرب الحصول على مكتسبات أكثر من خلال التفاوض، وفي طريق العودة من الإسماعيلية اعتقل رضا لاري، وهو يقول إن ذلك «بوشاية من زكريا نبيل كاتب صحيفة الأهرام، واتهموني بأني لست عربياً ولا أمثل العرب، وأخذت للتحقيق ثم أفرج عني في اليوم التالي وعدت إلى جدة»! زواج القطط وغضب الملك الطرائف لا تنتهي في سيرة خفيف الدم حاضر البديهة الأستاذ رضا لاري، لكن ألطفها على الإطلاق ما حصل معه مرتين، مرة مع الملك خالد ومرة مع الملك فهد رحمهما الله؛ الأولى وهي الأشهر أن لاري كان مسافراً إلى جنيف لحضور عرس حجازي كبير أقيم في جنيف، وقبلها كان في الطائف مع الملك خالد لافتتاح مشروع لتحلية المياه، ويذكر جيداً أنه حاور جلالة الملك وتحدثا حتى في مواضيع جانبية من باب الملاطفة الملكية، لكنه فوجئ باتصال الدكتور محمد عبده يماني يخبره بأن جلالته غاضب جدا من قصة زواج القطط التي نشرت في الجريدة التي يشرف عليهاّ يقول لاري :«الموضوع كله كان من تحت رأس محمد الفايدي الذي رشى جرسوناً في حفلة خاصة كبيرة أقيمت في جده ليأتيه بالسبق الصحفي، والقصة حقيقية لكن الفايدي أضاف لها الكثير من الفلفل والكمون حتى أنه نشر سبب الحفلة بعد لقاء مع أحد الحاضرين: «إن العري (ذكر القط) الخاص بنا تزوج من بسة (أنثى القط) صديقنا»، نشرت القصة في الثاني والعشرين من شعبان. يقول لاري «أدخلت للمحاكمة في مجلس الملك خالد في نهار الثالث من رمضان وكان جلالته في أشد الغضب، أدخلني الشيخ أحمد زكي يماني (وزير البترول حينها) إلى مكتب النويصر (رئيس الديوان الملكي حينها) حتى يهدأ غضب جلالة الملك، ولا أنسى نظرة النويصر حين قال لي: «أنت لم تجد شيئاً تزعجنا به هذه الأيام غير البساس؟!»، وفي الطريق قابلت الدكتور رشاد فرعون الذي كان خارجاً للتو من مجلس جلالته فقال لي: «إذا خرجت فمر علي في مكتبي»، فأيقنت أني ربما لا أخرج حياً، والأدهى والأمر أن الأمير فهد -رحمه الله- اعتذر عن التوسط لي لشدة غضب الملك، فأيقنت بالهلاك، دخلت للمحاكمة فسألني الملك عن كل شيء: من كتب الخبر؟ ولماذا تم نشره؟ ومن ثم قال لي: هذا الخبر يسيء لكل الشعب السعودي، فقمت وقبلت رأسه، وقلت له: أنا بين يديك يا سيدي ويكفينا ملك يغار على شعبه كغيرتك ويغضب هذا الغضب لأجلنا، فأمرني بكتابة تعهد وقلت: أتعهد شفويا يا جلالة الملك أمام مجلسكم هذا بألا يتكرر ذلك وأنت تعلم يا جلالة الملك بأن كل حاضر في هذا المجلس يخطئ إلا أننا حين نخطئ -معشر الصحفيين- ففضيحتنا بجلاجل، فأمرني بتناول القهوة ووجدت لي متسعاً للجلوس بين الدكتور فايز بدر والدكتور علوي كيال. لم أرَ لأخيكم مقالاً اليوم عدد المرات التي أقيل فيها رضا لاري لا تُحصى، فقد كان يتجاوز الخط كثيراً ويتنبأ ويحلل مواضيعَ سياسيةً ساخنةً، وقد أخبره الدكتور عبدالعزيز خوجة وزير الإعلام السابق ذات لقاء بأن استقالته -أي استقالة رضا- في درجه، ولم يكن للطاولة التي جلس عليها الوزير درج ففهم لاري الرسالة وعاد إلى بيته مباشرة، ورغم أنه نصح محرريه الأجانب في سعودي جازيت بأربع نصائح لو التزمها أي صحفي لسلم: الأولى عدم التطاول على الأديان السماوية، وعدم المساس بشرعية الحكم، والابتعاد عن الخلافات الإقليمية عالية الحساسية، ورابعاً الامتناع عن الحديث عن الجنس. لكن شجاعة أبي أحمد هي التي جعلته يقابل الرئيس السوداني الراحل جعفر نميري والرئيس المصري الراحل أنور السادات وشاه إيران الراحل محمد رضا بهلوي، وحين قابل الأخير خرج بعناوين عريضة أذكر منها «إيران ترفض تواجد أي قوة أجنبية في الخليج، نحن لا ننتمي للعالم الثالث، وكل خلاف سني شيعي لديه طابع سياسي». كثرة إيقاف رضا لاري -رحمه الله- جعلت والدته تصر على أن تقرأ مقال ابنها كل يوم فإن لم تجد له مقالاً اتصلت بإخوته، وقالت لهم: لم أقرأ لأخيكم مقالاً اليوم فطمنوني عليه! ولأنه كثيراً ما انتقد السياسات الأمريكية أو ما وصفه ب «الألاعيب الأمريكية» فقد كان أول صحافي سعودي توجّه في حقه السفارة الأمريكية مذكرة احتجاج لتنديده المستمر بسياسة واشنطن. ولم يكن يتحمل دمعة الضعيف ولا رؤية المحتاج، وكان يسعى عند ذوي الجاه لقضاء حاجات الضعفاء، يكره الظلم والظلمة. في عام 1981 أقيل رضا لاري من إدارة «عكاظ»، فقرر خوض غمار التجارة وفتح مكتباً للتخليص الجمركي، وحين علم التجار بإقالته خافوا على مصالحهم وتوقفوا عن التعامل مع مكتب رضا لاري، لكن حيل لاري وطرافته لا تنقضي ولا تنتهي، و كانت علاقته بالملك فهد -رحمه الله- وثيقة، وأخبر الملك فهد بأن مصالحه تضررت من الإقالة وأن لا أحد يريد التعامل مع رضا لاري، وطلب من الملك أن يبتسم له أمام الكاميرات كي تصل الرسالة، كان للملك فهد موقف آخر يخالف موقفه من التوسط عند الملك خالد في خبر زواج القطط، فقد أشار عليه الملك بأن يركب رضا لاري السيارة ويكون إلى جانب رأس البلاد، وفعلاً حدث ذلك ولم يتوقف هاتف مكتب رضا لاري للتخليص الجمركي من اتصالات التجار الباحثين عنه. رحم الله أبا أحمد الذي أخلص لبلده في كل مكان وضع فيه، وغفر له بحجم دماثة خلقه وسعة روحه التي وقفت مع كل فقير مر ببابه، ولن تموت أبداً سيرة صاحب الأسماء في النوتة.