لا تزال قضية التغذية تمثل الأولوية القصوى لدى البشر على مر العصور، ولا تزال تتربع على سلم اهتماماتنا باختلاف الزمان والمكان ونمط الثقافة السائدة، واليوم أصبح التداخل الحتمي بين التغذية والسلامة الغذائية والأمن الغذائي أحد أهم المعالم المميزة للمجتمعات المتطورة، وقد غدت للقضية أبعاد أشمل وأكثر تعقيداً، بدءاً من مراقبة سلاسل التوريد الغذائية وصولاً للوائح الصحية الدولية بموادها المتعددة والتفصيلية، التي باتت واحدة من أهم معالم السياسات الصحية والبرامج الغذائية الوطنية بمختلف دول العالم. لا يشغل موضوع الغذاء تلك الأهمية البالغة سالفة الذكر لكونه يؤثر على صحة وحياة الملايين من البشر فحسب، وليس لأن الغذاء غير السليم يؤثر على المسيرات التنموية للدول ويسهم بصورة جوهرية في تخلفها، ولكن لأنه إحدى القضايا الأساسية المؤثرة بشكل مباشر في النهضة البشرية والحضارة الإنسانية التي لا تكتمل إلا بتمتع العنصر البشري بكامل صحته ولياقته البدنية والعقلية، ومن هنا فإنه يمكننا القول إن صحة الإنسان هي اللبنة الأولى لكل حضارة إنسانية مرت بها البشرية على مدار التاريخ، ولهذا فقد تبلور مفهوم الحفاظ على السلامة الغذائية عالمياً ومحلياً -حديثاً- من خلال الشروع في تأسيس العديد من الكيانات المتخصصة لمراقبة هذا القطاع والإشراف عليه، منها ما هو دولي كمنظمة الصحة العالمية ومنظمة الأغذية والزراعة، ومنها ما هو خاص ببعض الدول مثل الإدارة الأمريكية للغذاء والدواء بالولايات المتحدة، والهيئة الأوروبية لسلامة الأغذية التابعة للاتحاد الأوربي، ومركز سلامة الغذاء في هونج كونج، وسلطة الأغذية في أستراليا، وغيرها الكثير في بقية دول العالم. لقضية التغذية شقان متلازمان متشابكان يصعب فصلهما عن بعضهما، الشق الأول يتعلق بحماية الإنسان من الأمراض الناتجة عن سوء التغذية، سواء نتج سوء التغذية عن نقص في العناصر الغذائية المطلوبة أو عن الإفراط في تناولها على نحو يرهق أجهزة الجسم، أو سواء نتجت الأمراض عن فساد أصل الطعام نتيجة سوء تخزينه أو تلوثه أثناء إنتاجه أو حفظه أو توزيعه، أو نتجت عن أي مشكلة حدثت خلال سلسلة توريده حتى وصوله ليد العميل النهائي، أما الشق الثاني فيرتبط بالبعد الوقائي المعتمد على نوع النظام الغذائي نفسه، الذي يتوجب أن يحتوي على عدد من العناصر المهمة والضرورية لبناء الجسم والحفاظ عليه سليماً معافى قادراً على مقاومة الأمراض وكافة العوامل التي قد تهاجمه أو تضره وتؤذيه. وبالقدر الذي تقع فيه مسؤولية تثقيف المواطنين غذائياً على عاتق الحكومات والسلطات المختصة، يقع جانب كبير أيضاً على المواطنين أنفسهم، فالكثير منهم يهمل في معرفة النظم الغذائية الصحيحة، ويتغافل عن التمييز بين المفيد والمضر منها، سواء عمداً أو جهلاً، وقد يترك الأمر يتفاقم إلى الحد الذي لا تحمد عقباه، فالقليل منا هو من يهتم بمعرفة مكونات الطعام الذي يتناوله، ومعرفة هل تلائم صحته العناصر الغذائية التي يحتويها أم لا، والقليل أيضاً من يسعى لفحص وتحديد مكونات ومقادير الطعام الكافية لمنحه الطاقة اللازمة لممارسة أنشطته الحياتية دون مراكمة السموم داخل جسده، والذي لا شك يصيبه الإنهاك والتعب من كثرة معالجته لمقادير من المواد الغذائية تفوق احتماله، مما يؤدي في الكثير من الأحيان للوفاة المبكرة لا قدر الله. غير أنه على الرغم من اهتمام البعض بتطبيق طرق الطهو الصحية، ومتابعة تواريخ صلاحية المنتجات الغذائية قبل استهلاكها، إلا أن الاهتمام ينصب أكثر على دور الجهات المختصة في تحويل ذلك الاهتمام العابر بأنظمة الغذاء الصحية إلى ثقافة شعبية عامة ونشرها بين المواطنين، بدءاً من الاهتمام بالمناهج الدراسية التي يجب أن ندرج بها مناهج متخصصة لتدريس نظم التغذية السليمة وقواعد السلامة الغذائية لمختلف طلاب المراحل التعليمية، نهاية بالتوسع في تخصيص العديد من الهيئات الصحية لإحكام المزيد من الرقابة على كافة المنتجات الغذائية، مروراً بالتكثيف الإعلامي والتوعوي لنشر الأفكار الصحيحة والمعلومات الدقيقة عن طبيعة النظم الغذائية وإجراءات السلامة الغذائية، ما نريده بالفعل هو مزيد من التطوير لأنشطة الهيئة العامة للغذاء والدواء في المملكة، بحيث تتمكن من الاضطلاع بدور أشمل وأكثر تأثيراً وفعالية بين المواطنين. الاهتمام بصحة الفرد يعني المعادل الموضوعي للتنمية المستدامة، والتنمية المستدامة هي الأولوية القصوى والاهتمام الرئيسي لكل دولة تهتم برفاهية شعبها وبازدهار مستقبله، والأمراض التي يسببها الافتقار للثقافة الغذائية السليمة تشكل عبئاً مادياً ثقيلاً على كافة النظم الصحية بالدولة، مما يؤثر بالسلب على التنمية الاقتصادية والاجتماعية بها، وتشكل المخرجات السلبية لنقص الثقافة الغذائية السليمة دوائر مفرغة متبادلة بين المواطن الذي تتزايد الأخطار على صحته يوماً بعد يوم، والاقتصاد الذي يفقد بدوره تدريجياً جزءاً ثميناً من موارده البشرية (الوطنية التي لا تعوض)، وهو الأمر الذي يتطلب وقفةً حاسمةً وتضافراً من الجميع للعمل على نشر واستدامة ثقافة غذائية صحيحة تسهم في تحقيق المزيد من الأمن والاستقرار والرفاهية للجميع. * كاتب سعودي Prof_Mufti@ [email protected]