يظل جوهر سياسات الغرب المتنفذ نحو بعض دول العالم العربي كما هو منذ حوالى نصف قرن. فما زال يغلب عليها توجيه «الصفعة» تلو الأخرى، من حين لآخر، على «الخد» العربي، الذى يبدو أنه استمرأ هذه الصفعات... لدرجة أنه يظهر مرحبا بالمزيد. ولو تساءلنا: لماذا يهتم الغرب المتنفذ، المتجسد الآن في قادة حلف ناتو، بالمنطقة العربية أكثر من اهتمامه بأغلب مناطق العالم الأخرى، خارج المنظومة الغربية؟! سنجد أن «طبيعة» العلاقات الدولية دفعت لذلك، وستظل تدفع، طالما بقيت أوضاع الطرفين كما هي. ف«قانون الغاب» ما زال يسري على هذه العلاقات، وإن خفت حدته في هذا العصر، بسبب «تنامي» الشرعية الدولية. وبالنسبة لمسألة مد «نفوذ» القوى الدولية الأكبر، فإن معظم دول العالم تتعرض لنفوذ الدول الكبرى والعظمى...أي لقدر من السيطرة، والتبعية والهيمنة، وعدم الاستقلال الفعلي التام. وهناك، في الواقع، أربع درجات للنفوذ، ومدى الرضوخ، أوجزت كما يلي: - الخضوع التام: حيث يصادر الأقوى إرادة الأضعف تماما، ويملي عليه سياساته الخارجية والداخلية الهامة. - التبعية: حيث تصبح شبه المستعمرة تابعة في سياساتها كلها للمستعمر، رغم استقلالها القانوني الظاهر. - الحماية: ضد أخطار مشتركة معينة أو محتملة، مقابل تنازلات معينة ومحدودة، ودون التدخل في الشؤون الداخلية للدولة الأضعف. - تحالف شبه الأنداد: لخدمة مصالح مشتركة، مع تساوٍ نسبى في الحقوق والواجبات في ما بين أطراف التحالف. **** ولكى تستمر الدول الكبرى والعظمى كدول كبرى وعظمى، لا بد لها من «مد» نفوذها على أكبر قدر ممكن من البسيطة، وخاصة بالمناطق الهامة، وتلك التي يتطلب تنافسها مع أعدائها ومنافسيها بسط شيء من الهيمنة عليها. والعرب، لو كانت لديهم دولة كبرى لعملوا الشيء نفسه، طالما أرادوا الاستمرار والازدهار. ولكن، يجب أن لا تحسب أي دولة محترمة، إن لم تلتزم بمبدأ العدالة، ولو في حده الادنى. ذلك هو ديدن العلاقات الدولية وتلك قيمها المتحضرة. وهناك أمور في سياسات الغرب المتنفذ، خاصة نحو بعض العرب، لا يمكن قبولها من قبل المعنيين، بمن فيهم غالبية شعوب الغرب المتنفذ نفسه. ويلاحظ أن الغرب المتنفذ يكرس «غابية» العلاقات الدولية، ويعمل على استمرار قانون الغاب فيها، لأنه الأقوى. وقد كان بإمكانه أن يخفف – كثيرا – من حدة قانون الغاب هذا، بما له من سطوة دولية نافذة... لإقامة عالم أفضل، وأكثر إنصافا ورحمة. ولكن سوء بعض أهدافه ووسائله جعلت العالم مضطربا، ويعيش على «كف عفريت»، وخلقت مآسي وكوارث وأزمات انسانية، لا حصر لها، خاصة في المنطقة العربية، التي تحظى من الغرب المتنفذ باهتمام مسعور... **** يضغط الغرب المتنفذ على العرب أكثر من غيرهم، ويترصد بهم، وأحيانا يأخذهم بجريرة قلة قليلة فيهم. ويلاحظ أحيانا أن هذا الغرب يكن للعرب الكره والعداء. فماذا يريد من العالمين العربي والإسلامي؟! هناك، كما نردد دائما، مسببان رئيسان لما معظم الأمة العربية فيه من ضعف وتخلف واضطراب، هما: - المسبب الذاتي (الداخلي): ويتجسد في أربعة أسباب رئيسة (الاستبداد السياسي، الطائفية، المذهبية، الإسلاموية) وعدة أسباب أخرى متفرعة. - المسبب الخارجي (الأجنبي): و يتجلى أساساً في: حركة «الاستعمار الجديد» وما ينفذ تجاه الأمة، من قبل الغرب المتنفذ، من خطط وأطماع، بالتحالف مع الصهيونية. إضافة إلى سياسات «مد ودعم النفوذ» التي تمارسها الدول الكبرى بالمنطقة. **** الغرب المتنفذ هو «بطل» المسبب الخارجي، بسياساته السلبية القديمة – الجديدة، تجاه العالمين العربي والإسلامي... باعتبارهما من العالم النامي الجنوبي، وحسابهما على دين معاد للغرب وقيمه – كما يعتقدون في الغرب. غالبية هذا الغرب تعتبر «الإسلام» تهديدا كبيرا لدينهم (المسيحي) بل ولكل قيمهم الأساسية. وقد قدم المتطرفون «الإسلامويون» لهم ذرائع... لشن حروبهم المعروفة، ومنها ما يسمى «الحرب على الإرهاب»... وبالمنطقة العربية إمكانات وموارد يسيل لها اللعاب، وأولها: الثروة النفطية الهائلة. وتتلخص أهداف الغرب المتنفذ في: محاولة استغلال إمكانات المنطقة، وإخضاعها لنفوذه الدائم. وعبر وسيلة «الهيمنة السياسية»، والتمزيق والإضعاف، يتم هذا الاستغلال، ويتم ضمان بقاء ورفاه إسرائيل، وتسيير الأمور بالمنطقة على النحو الذي يذلل إمكاناتها لهذا الغرب. ومع ذلك، يظل المسبب الذاتي هو الأقوى تأثيرا. والمسببان مترابطان، ومتداخلان، أشد التداخل. وهذه العلاقة الوثيقة تؤكد بأنه: لولا «المسبب الذاتي» ما وجد واستشرى «المسبب الخارجي»... ولولا «المسبب الخارجي» ما كان المسبب الذاتي مستتباً ومتمكناً بالقوة التي هو عليها. ويمكن تشبيه أغلب سياسات الغرب المتنفذ نحو أغلب العالم العربي، بأنها «صفعات» قوية متتالية... توجه لمعظم العرب. بدأت بصفعة «سايكس – بيكو»، وصفعة إنشاء إسرائيل في القرن العشرين، ولن تنتهي بالصفعة القادمة المنتظرة، التي يسمونها «صفقة القرن» الواحد والعشرين، التي تتضمن «تصفية» القضية الفلسطينية، عبر تقديم «حل هلامي» لهذه القضية، وتمكين إسرائيل من تنفيذ، وإكمال مشروعها الصهيوني بالمنطقة. **** غالبية المجتمع الدولي ترى ضرورة حل الدولتين، المشابه لمضمون مبادرة السلام العربية. وبينما تتمسك القيادة الفلسطينية بهذا الحل المجمع عليه، فلسطينيا وعربيا وإسلاميا وعالميا، فإن هذه القيادة أعلنت صراحة، أنها لا تمانع في قبول «حل الدولة الواحدة»... القائم على المساواة بين كل مواطنيها، سواء كانوا يهودا أو فلسطينيين. ولكن إسرائيل ترفض بقوة حل الدولتين، وكذلك حل الدولة الواحدة المساوية بين مواطنيها في الحقوق والواجبات... مما يؤكد عدوانية وعنصرية إسرائيل، وإصرارها على أن تكون كل فلسطين دولة لليهود فقط... لا يسمح فيها لغير الصهاينة بالإقامة، إلا ربما كمواطنين من الدرجة الدنيا. هي ترفض إقامة دولة فلسطينية مستقلة، جنبا إلى جنب مع إسرائيل. إنها تصر على رفض هذين الحلين...اللذين يتعرضان الآن لضغوطات محمومة لتغيير جوهر كل منهما. **** وللالتفاف على هذه المبادرات والحلول السلمية المقترحة، تقدم إسرائيل حلا هلاميا... يتمثل في: احتفاظ إسرائيل بكامل فلسطين، أرضا وسكانا... مع إقامة «كانتونات» فلسطينية متناثرة في الضفة الغربية وغزة، يقيم الفلسطينيون فيها، دون رابط قومي ووطني واحد... وبحيث يسمح لكل كانتون بممارسة الحكم المحلي على أرضه...؟! وتجاوبا مع ما تريده إسرائيل، يتم الآن التحضير لتقديم ما يسمونه «صفقة القرن»، التي تعنى تحقيق الحل الذي تريده إسرائيل، ودون اكتراث بالحقوق المشروعة للفلسطينيين، وبما قررته الشرعية الدولية بشأنهم. والفلسطينيون، والغالبية الساحقة من العرب، ترفض – بالطبع – حل الدولة ذات الكانتونات العنصرية. والعجيب أن إسرائيل وأنصارها ما زالوا يطرحون هذا الحل، الذي ينم عن عدوانية وعنصرية بالية. وطالما استمر الإصرار المقيت على عدم إعطاء الفلسطينيين حقوقهم المشروعة، أو الحد الأدنى من هذه الحقوق، التي سلبتها إسرائيل، فإن «صفعة القرن» هذه ستولد ميتة. وذلك يوضح بجلاء حرصا لإعطاء إسرائيل القول الفصل في تبني أي حل، مما يستبعد الحلول العملية المنطقية. ولراعي إسرائيل الأول الآن رئيس متصهين... يسعى لمحاباة إسرائيل واسترضاء أنصارها، وتلبية كل طلباتها، طمعا في ولاية رئاسية ثانية، وابتزاز للمنطقة. كم كان يردد: أمريكا أولا، ويبدو أنه يقصد به: إسرائيل أولا..... * كاتب سعودي [email protected]