في قريتي الصغيرة، والتي تنيرها ياقوتة ويعلوها تل من زغب العصافير، في كل ركن منها حديقة مغرقة بالندى، حدائق بهية كصورة لم ترسمها يد إنسان، ما إن تتحول الشمس إلى اللون البرتقالي ثم الأحمر القاني حتى أتجه إلى إحدى هذه الحدائق لممارسة المشي، أفضل الطرق لمراوغة ألم الحياة هو المشي، المشي يوقظ الروح النائمة من سباتها، الإنسان هو الكائن الوحيد في المملكة الحيوانية السائر على قدمين، إذا أخذنا بمقولة أن الإنسان حيوان ناطق، كل الحيوانات تبدو في نطاق أفقي، سواء كانت تزحف أو على أربع، تطير أو تسبح، الإنسان هو الوحيد الذي يمتلك بُعدا رأسيا، أي أنه متطلع بحكم قامته المفرودة إلى السماء، أعشق رائحة الهواء في الحدائق، أمسح بعيني فوق امتداد الخضرة حتى الحشائش بين شقوق الأحجار العتيقة لها شعور مختلف، حيث تمنحك شعوراً وكأن الأرض سحابة رهيفة من ريش العصافير تغوص فيها قدماك، أسحب نفساً عميقاً من الهواء الطازج، أشعر كما لو أنني أسمع دقات قلبي تأتي من البعيد يصطحبها طعم بهجة كنت قد نسيته، كأنني أسمع صوت «سيد مكاوي» يدندن، في يوم صحوت شاعرا براحة وصفاء.. الهم زال والحزن راح واختفى.. خذني العجب وسألت روحي سؤالا.. أنا مت؟ والا وصلت الفلسفة.. مرقت نسمة هواء خفيفة، مست وجهي برفق، وارتعش لها قلبي، فاح في الهواء عطر كزهر الليمون، امتزج برائحة حزن كثيفة وأنا أنظر لهذه الحديقة، حسرة تأكلني ودوامة عنيفة تجرني إلى زمن، استبيحت فيه الأراضي المخصصة للحدائق وبنيت عليها قصور، قصور بنيت على رقاب الورد، ذكرى ثقيلة، لكنها تؤلم، صدى يأتي من عالم آخر، يردد مع «جاك برل»، كل حاجة ممكن تتنسي.. واللي فاز منا هو اللي نسي، شعور يشبه الخواء، وأحداث كالوشم فوق العقل، أعود من شرودي، أدس أنفي في موجة عطر أزهار، ليهدي من دقات قلبي وأعيد التنفس بهدوء، استمر في المشي، أوغل في السير، خيوط عرق تتسرب من وجنتي رغم الهواء البارد، تواصل تتابعها، فجأة تنبهت لصوت لهاثي، كان أسفل شجرة «اليوكاليبتوس» العتيقة ذات الجسد الضخم مقعد حديدي أنيق مصبوغ بلون أخضر عميق الخضرة، قاعدته خشبية، جلست حيث طاب لي المقام، وبدأت أمارس التنفس بهدوء، كان الهواء البارد المندى برائحة مطر الأمس يرتب وجه الدنيا بخفة ويتسلل إلى رأسي بمسحة صفاء، هواء بمذاق الشهد، كانت أفرع الشجرة العتيقة تتمايل بخفة مع الهواء القادم من الشمال، مددت يدي ألتقط حفنة وريقات خضراء طويلة تأملتها، كان لكل ورقة وجه أخضر مائل للزرقة، تأملت التجاعيد الرقيقة على وجه إحدى الأوراق، كان لها رائحة منعشة كرائحة الليمون، غمرتني حالة من الصفاء، شعرت بعقلي رائقا، كماء بحيرة شفاف يكشف أشكال الحصى والتفافات الأسماك الصغيرة حول بعضها البعض وحول الشجيرات الصغيرة في القاع، هذا ما تفعله الحدائق في النفس، لمحت نقشا على ظهر الكرسي الذي كنت أجلس عليه، مررت بعيني فوق التفاصيل المكتوبة على نقش ذهبي عميق في جسم المقعد، كأني أتأمل تمثالاً إغريقياً لآلهة مجهولة الاسم، قرأت ما كتب على الكرسي، «لن أفقد إيماني بالحياة.. إهداء لروح زوجتي كرول» صمت لحظة بعد أن صدمتني الفكرة، «إهداء كرسي لحديقة عامة كصدقة جارية على روح من فقدنا» في طريقي للبيت، أخذت أتتبع كل إهداء مكتوب على كل كرسي أمر به، كم هي متعة، كأنني أقرأ أسفارا قديمة، أسبح معها، أفقت من نشوة اكتشافي، أطرقت رأسي في وجل، ثم رفعت رأسي للسماء متسائلا وابتسامة مرارة على شفتي، خرجت مني زفرة عميقة وأنا أتساءل، هل هناك فكرة بديلة عن الصدقة الجارية غير ثلاجة الماء الصدئة أمام كل بيت؟؟ * كاتب سعودي [email protected]