كان من أحد المكاسب التي جنيتها من أمسيات ثلوثية الإبداع الماطرة لطيب الذكر (أبو الشيماء) الأستاذ محمد سعيد طيب، أن التقيت بالشاب (محمود عبدالغني صباغ)، شاب ما إن تتعرف عليه، حتى يستحوذ عليك بفكره، تتركه فيظل بعضه فيك مهما ابتعدت، عبقه يظل عالقا في جسدك، وأفكاره تتردد في رئتيك فقد كان أكسجين تلك الجلسة في ذلك المساء، كنت أتساءل وأنا أستمع إليه، من أي قصب صنعت أفكاره؟ وتوثقت العلاقة بيننا، ومنذ ذلك الحين وأنا أتتبع خطى (محمود)، والرياح الهوجاء تتقاذفه في محيط الحياة، فأنا مؤمن بالشبيبة، ومؤمل بالشبيبة، ومحب للشبيبة، لأن الشبيبة، كل الشبيبة، هي أفضل ما نفكر به، شرط أن نتيح لها السانحة، ونثق بها ونحبها، لفت انتباهي أنه نموذج للحلم الجميل، والفكرة الجديدة، شاب يمثل دور الإنسان الفرد في مواجهة التحديات، وكانت عزيمته ملموسة في المضي قدما ومهما كانت الصعاب نحو هدفه، كان ببساطة نموذجا للأمل والغد الأفضل والمشرق، ضوء القمر المندفع صوب القرى الغافية، تحس وهو يتحدث إليك أنه يضرب بقبضته الهواء منتشيا، كنت أحيانا أعطف عليه، وأنا أشاهده يستخدم عكازه لتفادي الحفر الاصطناعية، وكيف أنه أحياناً لا يجد الوقت لالتقاط أنفاسه، وكيف كان يغسل أطرافه الجريحة بما تبقى من دموع الليل وحيدا، وكان يسمع طلقات الرصاص ودوي المدافع وهي لا تبعد كثيرا عن روحه، إلا أن عينيه كانتا واسعتين كعيون المها على هدفه ومشروعه ذي الأفق البعيد، مشروع قام برعايته يوما بعد يوم مثل أطفاله، وفي فترة قصيرة أخذ هذا (المحمود)، يستدرجنا إلى عالمه بمهارة، يعطينا قليلا من السعادة كموثق بارع، فنستمر نتبعه مقتنعين بأن حالة البهجة لن تغادرنا، ليتكرر الاستدراج ونصحو على متعه هائلة، وعمل رائع أنجزه بتألق، ومن (بركة إلى بركة)، أصبح (محمود عبدالغني صباغ) يخطف الأبصار ويسحر متابعيه، ويستولي على مساحة واسعة من التأثير في المجتمع، ويحصد جوائز عالمية على أعماله المدهشة، ذات الطابع الإنساني، وليصل إلى أعلى مراحل قوته من الناحية التقنية، بالأمس فاجأني برؤية مذهلة ذكية سامية (سينما الحوش)، الفكرة زهور برية أراد لها محمود نسقا خاصا بها، شيد مكان العرض في (الحوش)، على غرار هندسة (نيكولاس ريفيت) في أواخر عقد ثمانينات القرن الثامن عشر، عندما أراد إعادة تشيد معبد الجزيرة، ليكون موضع اهتمام ومعلما يشد الأنظار، من أجل تعزيز المُثل الفنية، بناه فوق ضفة نائية، ليكون له انعكاس جميل على ضفاف ماء البحيرة، الانعكاس البانورامي الأخاذ الذي يهدف إليه (محمود)، قصة تفرض نفسها حيث السينما بدأت في جدة من (الأحواش)، من الحوش بدأت وللحوش عادت، مشهد لا يمكن تجاهله، وعملية سحرية بديهية لا بد لنا من التأمل فيها كعودة (لسينما البسطاء) من جديد، قدر من التجلي أراده (محمود) بفعل بصيرته النفسانية وتمكنه من سرد التفاصيل الحسية والتاريخية، لقد بلغت سن الشيخوخة وأنا أبحث عن مقعد في (حوش) فقدته، لأعود وأشاهد فيلما يشبهني، لقد أعادني (محمود صباغ) إلى جذوري الأولى، أعاد لي رعودي وبروقي وصواعقي وبراكيني وزلازلي، حط بي على رماد شبابي، حقق لي حلما من أحلام حياتي، وأعلن للجميع في البدء كانت السينما وأفراحنا ستظل في الأحواش! * كاتب سعودي [email protected]