كان «حراج العصر» في مدينة جدة مقصد الفقراء وذوي الدخل المحدود، الحراج المتواضع محشور بين حي الشاطئ وبين حي البخارية، مساحته أقل من مساحة ملعب الكرة الطائرة، وفيه تجد مبتغاك من الأسطوانات القديمة لعبدالله محمد، ومحمد سعد عبدالله، وتوحة، وأحياناً أسطوانات لعبدالوهاب وفريد ونجاة، إضافة إلى الأواني القديمة، والملابس المستعملة، وعلى بُعد خطوات قليلة «شرشف على الأرض» فوقه كتب قديمة للعقاد، وطه حسين، وتوفيق الحكيم، وأحياناً بعض الكتب المترجمة، والثمن في متناول أيادي أنصاف ذوي الدخل المحدود ممن لديهم الشجاعة لإنصاف عقولهم على حساب بطونهم أو المساواة بينهما بقدر الإمكان، مع أن المساواة بين العقل والبطن مسألة شائكة جداً.. أحد الزملاء المغرمين بالثقافة والصحافة كان محتاجاً لمبلغ عشرين ريالا لإشباع غرامه بأكل وجبة بامية. حمل كتب لنيتشه والمنفلوطي والعقاد وذهب بها لحراج العصر وبعد مفاصلة باع الكتب بعشرة ريالات وذهب لمطعم وأكل البامية، وشعر بالانتصار لبطنه لأن الناس تنكسر إذا لم تجد غذاء للجسد لكنه شعر بتأنيب ضمير لإعلاء صوت البطن على صوت العقل والتضحية برأس نيتشه مقابل وجبة بامية شهيّة، ولكي يتخلص من عقدة الذنب صار زبوناً دائماً للكتب المستعملة.