بعد مسيرة حافلة بالإنجازات والمبادرات والاتهامات، ودّعت عروس البحر مدينة جدة أهم أمنائها وأكثر شخصياتها الخدمية إثارة للجدل والخلاف. ودّعت جدة يوم أمس أمينها السابق الدكتور محمد سعيد فارسي الذي تسنم هرم الأمانة من 1392 إلى 1407 وطوال هذه السنوات قلب الخريطة رأساً على عقب، وخطط بروح الفنان وشغف العاشق ملامح جدة الجديدة التي تتجه شمالاً، وأعاد ترميم جدة القديمة ليجعل منها حاضنة لكل تاريخها الممتد لمئات السنين، ورسم خريطة كورنيشها ليكون نموذجاً ينافس أجمل شطآن العالم، ولم يكتفِ بهذا، بل جعل هذا الكورنيش وكل ميادين هذه المدينة الناعسة على البحر متاحف مفتوحة في الهواء الطلق، وتحتضن أعمال أهم الفنانين العالميين والعرب والمحليين مثل البريطاني هنري مور، والإسباني خوان ميرو، والأمريكي إسكندر كالدر، والإيطالي ألبرتو جياكوميتي، والألماني جين آرب، والمصري مصطفى سنبل، والسوري ربيع الأخرس، والسعودي عبدالحليم رضوي، وعشرات آخرين من أبرز فناني العالم. كل هؤلاء اكتظت بهم ميادين جدة وعانقوا أمواج البحر على شواطئها. الفارسي جاء من قلب ذاكرتها، وحاول أن يجعل هذه المدينة مدينة متوسطية على البحر الأحمر، ونجح في هامش الجمال ومتن التنظيم للأحياء الجديدة التي عانقت بوصلة الريح باتجاه شمال الروح، ولكن في العمق، في خلفية المشهد، كان هناك ورم هائل بدأ في التشكل بصمت في أحشاء هذه المدينة، ورم أصبح الآن أكبر من قدرة مشرط العلاج السريع، فهو يحتاج إلى استئصال تام؛ لتنهض جدة من غيبوبة الغرق وهشاشة البنية الآيلة للتآكل.