تستقطب العاصمة في نشاط اي محترف عربي معاصر مركزية التأسيس والازدهار حتى اعتدنا سيطرتها على محترفات المدن الاخرى ضمن تراتبية: "المركز والأطراف" هي المركز حيث تتأسس عادة كلية الفنون، وكل ما يدور في فلكها من الفنانين يفدون من محترفات مدن الاطراف، تنسحب هذه المركزية على نشاط المعارض والطباعات والنقد والاعلام والمؤسسات والمهرجانات والصالونات الدورية وأسواق الاقتناء والعرض والطلب، نعثر على نواظمها الاستقطابية في شتى العواصم النهضوية المشرقية والمغربية، من القاهرة الى بيروت، ومن عمان الى دمشق، ومن بغداد حتى الرباط وتونس والجزائر ومسقط والمنامة والدوحة وصنعاء والخرطوم، دعونا نمتحن عجز الاسكندرية عن منافسة مونوبولية القاهرة محلياً وعربياً وعالمياً، وذلك على رغم وجود بينالي وكلية فنون خاصة مستقلة في كل منهما. لا يمكن لأي فنان اسكندراني او سواه ان يصبح معروفاً اذا لم يعبر في سيرته من القاهرة. لنمتحن ايضاً عجز "معهد تطوان" في المغرب عن مقارعة قطبية العاصمة الرباط وتمركز العروض والصالات فيها، وذلك على رغم قدم تأسيس معهدها منذ فترة الاستعمار في نهاية الاربعينات وعلى رغم اهمية مجموعتها الفنية التي تدرّس في معهدها خصوصاً عميدها الفنان عبدالكريم وزّاني ثم سعد الخفاج ومكي مفارة كذلك الامر مع عجز معهد فنون الدار البيضاء ومواسم "اصيلا" وجامعة "الحسيمة" وغيرها، اذا احببت ان تعرض في المغرب عليك ان تتفق مع صالة في الرباط اولاً والا سيعتبر المعرض سياحة عابرة. لا يشذ عن قاعدة المركز والأطراف هذه الا مدينة جدة - السعودية التي تحولت مع الايام الى عاصمة تشكيلية وما عداها اطراف بما في ذلك الرياض. اذا تمردت بعض المحترفات المنافسة في مكة او المدينة، الرياض او القطيف او ابها على التسليم بمركزية موقعها فهم يبايعونها لأنها الاكثر انفتاحاً على المستوى الجغرافي وذلك بسبب موقعها على البحر الاحمر، ما اعطاها تراكمات صفة "محطة عبور" شمولية لا تعرف الانطواء. تعانق جدة جالية تشكيلية وفد فنانوها من شتى الآفاق، حتى ليندر بين هؤلاء من ولد في جدة نفسها، من مثال صفية بن زقر وعبدالعزيز عاشور، وذلك ابتداء من الرائد الاول عبدالحليم رضوي الذي ولد في مكة مثله مثل طه صبان ونايل ملا، وشادية عالم. اما عبدالله حماس فهو مولود في المنطقة الجنوبية في ابها. بعضهم مولود خارج المملكة مثل ضياء عزيز ورائد عاشور القاهرة، وآخرون ابعد من ذلك مثل بكر شيخون المولود في جاوه. جعلها نشاط هؤلاء تحتل موقع القلب من المشهد التشكيلي: معارضهم، تجمعاتهم، مؤسساتهم النقابية وعلى رأسها "بيت التشكيليين" الذي ارتبط باسمه صبان وحمّاس، وهو قصر او بيت نموذجي متعدد الطوابق والروشانات، كان يملكه في جدة القديمة احد الامراء، ونفذ مع قلة من القصور عندما داهم التحديث المدينة في الثمانينات فترة الطفرة. اما متحف رضوي فهو استمرار لمحترفه ومنزله العريق، بعكس "دارة صفية بن زقر" فهي عبارة عن مركز ثقافي للتوثيق وحفظ التراث ومتحف للوحاتها ورسومها، قصر حديث مؤلف من طابقين اشبه بالمركبة الفضائية الاستشراقية. تشكل هذه المعاقل التشكيلية ونظائرها خصائص المدينة، مثل اوابدها العامة على غرار تمثال "عباس بن فرناس" الذي انشأه ضياء عزيز على بناء "السعودية" العام. تندمج ذاكرتها بذاكرة المحترف التشكيلي المحلي، بولادة اولى علامات ظهوره ومنجزات النحت المعماري الذي اختصت به المدينة. لا يمكننا ان ننسى ان اول معرض للفن التشكيلي في المملكة التمع في جدة عام 1964، أقامه الرائد عبدالحليم رضوي، وان اول معرض نسائي تبعه بعد اربع سنوات فقط اقامته الرائدة صفية بن زقر بالاشتراك مع منيرة موصلي بنوع من الدعم الانثوي ولم تشهد الرياض المعرض الذكوري الاول لمحمد السليم حتى 1967، والمعرض الانثوي الاول لمنيرة موصلي حتى عام 1973. بما اننا نتعرض للشراكة او تقاسم مجد التأسيس في جدة بين الابداع الذكوري والابداع النسائي، فقد حبى الله هذه المدينة بعدد من سيدات التشكيل توفقن في اعدادهن على نظائرهن في لبنان على ما رأت الناقدة هيلين الخال في كتابها من تفوقهن عددياً على بقية المحترفات. اذا استعرضنا ميراث صفية بن زقر ومنيرة موصلي وصلنا حتى شادية عالم وإلهام بو محرز مروراً برائدة عاشور وزهرة بو علي والسديري وغيرهن من المحترفات كثير، حتى ليكاد نشاطهن يبأ زملاءهم الذكور إن لم يتفوق عليهم في بعض الحالات. لعل اكبر ما شد من عضد "المنوبولية" المذكورة هو تظاهر فن النحت بصورة متخمة في معرض النحت الدائم في كورنيش جدة، وبما يقترب من صورة كورنيش نهر السين في باريس القريب من معهد العالم العربي والمزروع مثله بأوابد نحتية سامقة في الهواء الطلق، يتحدث الرضوي عن 350 آبدة، شيدت في العراء خلال 25 عاماً وشارك هو نفسه في خمس منها، يصل ارتفاع بعضها الى 40 متراً. يرجع الفضل في هذا المشروع الذي يحتل عشرات الكيلومترات الى عمدة المدينة السابق المهندس الشيخ سعيد الفارسي اذ جعل هذا الكورنيش وغابة منحوتاته جزءاً عضوياً من المخطط التنظيمي للمدينة. وهو مخطط يمثل نموذجاً مستقبلياً ورائداً في حداثته. وجُبلت معظمها من اوروبا وهي لفنانين عالميين بمستوى هنري مور وكالدير وآرب وليبشيتز وميرو وسيزار وقازازيللي وبومودورو، كما كلف بالمشاركة بعض النحاتين العرب ابتداء من عبدالحليم رضوي السعودية وانتهاء بعارف الريس ومظلوم لبنان مروراً بصلاح عبدالكريم مصر وربيع الاخرس سورية. تذكر مجسمات درويش سلامة بالنماذج السكنية التقليدية التي انسلخت عن نسيج الحاضرة المرفأ مع التحديث. لعله من الجدير بالذكر ان الدولة انشأت في جدة "مركز الفنون" باشراف رضوي، و"معهد التربية الفنية" في الرياض ما بين 1966 و1967. لا يحتكر الفارسي موقف "الميسينا" المشجع للفنون. فلا يمكننا انكار ما للبنية الفوقية المؤسسة من دور في حماية العلامات الاولى الرائدة الحماية من بعض الحساسيات التطيرية من قبل بعض المتعصبين تجاه الصورة والمنحوتة. لولا ذلك لما استطاعت صفية الرسامة خصوصاً وانها تخطر بلباس الانثى ان تسجل اول معرض تشكيلي نسائي. كما رأينا. ثم تحول هذا الموقف الى تقاليد نهضوية مطبوعة بالانفتاح الحداثي. وظهرت في السنوات الاخيرة ابتداء من عام 1996 "مؤسسة المنصورية للثقافة والابداع" التي اسستها الأميرة جواهر بنت ماجد بنت عبدالعزيز، وهي سيدة بالغة الرهافة التشكيلية والحماس المنقطع النظير لاخراج الفن السعودي واضاءاته من عزلة قارته المجهولة، ابتدأت بمعرض استعادي لشادية عالم تحت عنوان "اشارات" في غاليري روشان وكان صدى اكتشافها كبيراً، تلاه معرض لفيصل سمرة ثم معرض لعبدالله حماس في باريس، ثم عرضت الثلاثة: عبدالله الشيخ وطه صبان وشادية عالم في مهرجان "يوروآرت" في جنيف. ثم انتجت كتاباً فاخراً بورتفوليو منجزاً من قبل الاختين رجاء وشادية عالم، وخصصت لتوقيعه سهرة في معهد العالم العربي، ثم في بيروت. اخرجت "مؤسسة المنصورية" الحركة التشكيلية في جدة من روتينها اليومي بسبب ما أثارته من تنافس شريف بين الفنانين، ومن اهم المشاريع التي تحضر المؤسسة لها هذا العام معرض كبير للوحات من قياس صغير، ولعلها من اجمل ما انتجه الفنانون المشاركون، وسيتم العرض في ثلاث صالات عرض اساسية في جدة تحت عنوان "الفن في متناول الجميع" وهي صالة ارابسك وروشان والعالمية. جدة مشتعلة بالنشاط والاحداث التشكيلية، كان نجم هذا الموسم المعرض الشخصي الثالث الذي اقامه يوسف احمد جاها، وكان نادراً في مستوى اصالته. بقي ان اعترف بأن الاحتفاء والجدل النظري حول معرضي الشخصي كان اكثر من مفاجأة لي تحولت منصة الندوة الى منبر بحثي جاد، شارك فيه عالم الجمال الدكتور راتب الفوتاني ثم الفنان والناقد عبدالعزيز عاشور ثم الروائي المعروف عبدالله بخشوين. وتأكد لي مع مستوى الجدل والنقاش ان جدة بدأت تتجاوز كونها عاصمة تشكيلية سعودية الى مستوى "المونوبول" العربي في الفن التشكيلي.