التناقضات التي نعيشها تعتبر أحد المواضيع التي تهم تقريباً كل إنسان؛ لأن التناقض طبيعة إنسانية مهما حاول البعض إخفاءه أو التجمل مما يظنه خللاً أو نقصاً. ومن السهل أن ترى التناقض في غيرك، في حين يصعب على كثيرين أن يرى تناقض نفسه، فالإنسان يعيش التناقض بوعي أو بدون وعي. التناقض في الحقيقة يعيش داخل كل إنسان، وهذا التناقض قد يسبب زعزعة للاستقرار النفسي؛ لذلك يحرص الإنسان العاقل على الوصول إلى التوازن والتصالح الداخلي. ومن أجل هذا يبحث الإنسان عن معادلة تضمن وتحقق له التوازن أو التوافق بين ثوابته وسلوكه؛ لكي يعيش بسلام داخلي. ومن أجمل ما قرأت في هذا الموضوع مقال مترجم في صحيفة حكمة (صحيفة إلكترونية) للدكتور ديفيد بيرلاينر أستاذ الأنثروبولوجيا بجامعة liber de Bruxelles في مدينة بروكسل، وهو من المهتمين بالذاكرة الاجتماعية والتحول الثقافي. وقد ضرب الأستاذ ديفيد عدة أمثلة للتناقض، تدل على أنه حتى المفكرين النقديين يقعون في التناقض، بخلاف ما ذهبت إليه المؤرخة الأمريكية جوان والاتش من أن ما يميز المفكر الحاسم هو «قدرته على الإشارة إلى التناقضات». واستشهد على ذلك بتناقض الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو الذي يتحدث عن «شجاعة الحقيقة» بينما هو يخفي مرضه القاتل، أو التاجر الذي يهتم بالفقر، أو ناشط بيئي يدخن أو يشتري أجهزة إلكترونية تتناقض مع حرصه على البيئة، أو من يحرص على الخصوصية ويقوم بنشر صوره على الفيسبوك. التناقضات تتنوع وتتعدد، وهي ليست بالضرورة سلبية في كل أحوالها، بل هي عامل مساعد على الإبداع عندما يتم توظيفها بشكل إيجابي. إن تجزئة المعرفة يساهم في تخفيف التنافر المعرفي، ويجعل الإنسان يعيش بسلام مع المتناقضات. فالكذب سلوك معيب، غير أن القيام بتجزئة المعرفة يجعل الإنسان أكثر تقبلاً لهذا السلوك إذا كان بصدد إصلاح ذات البين أو لتجنب ضرر أكبر وأشد من الكذب في حد ذاته. إن مبدأ بلوتارخ الرواقي الذي يذهب إلى القول «بالتوافق التام بين ثوابت الأشخاص وسلوكياتهم» غير واقعي. فالشعور بالذنب أو الرغبة في الوصول للكمال لن يحقق الكمال ولن يحقق الاطمئنان النفسي؛ لأن التناقض صفة ملازمة للبشر، يلزم التعايش معها بتوازن وجعلها مصدر إلهام وإبداع. * مستشار قانوني @osamayamani [email protected]