تداول غالبية مستخدمي تطبيق الواتساب أو «المتواتسين» -العرب على وجه الخصوص- على أعلى المستويات، من مختلف الأعمار، في شتى الأرجاء، ما نفذ إلى «واتسابهم» من مقالٍ منسوب إلى مؤسس علم الاجتماع عبدالرحمن بن خلدون الحضرمي اليمني. ... تأسيسُ علم الاجتماع إذن فضلٌ يماني مُسدىً للتراث الإنساني..! نُسب إليه مقالٌ شهير بعنوان «عندما تنهار الدول»، على أنه مجتزءٌ من نص مقدمته الأشهر. ومن عجبٍ أن كثيراً من الأقلام العربية قامت بعمليات النسخ واللصق والنشر ومشاركة الجمهور هذا النص البديع إجمالاً في تشخيصه، لصاحب قلم مجهول، ومع الأسف سيظل مجهولاً بنسبة نصه هذا إلى شخص ابن خلدون المشهور والمشهود له بأنه لم يقل شيئاً بهذه اللغة ولا بهذا الأسلوب. الأعجب في الأمر أن زاده انتشاراً تسجيل فيديو يخلِّد هذا النص غير الخلدوني.. ليثبت حقاً «أن للكذب سوقاً رائجة ليست للصدق»! نُعيدُ القول بأنه نصٌ بديع، لكن نسبته إلى ابن خلدون أمرٌ غير بديع. فلا لغة ابن خلدون، ولا عصره، ولا جيله، ولا قرنهم الرابع عشر الميلادي اختالت على صفحاتهم مفردات حداثية من نوع «مشروعات» و«مبادرات»، ولا درجت على ألسنتهم صفات أهل القرون الأخيرة مثل «انتهازيون».. حتى من اجتهد في اجتراح 40 حكمة خلدونية، تطابق محتوى مقدمته، وتم نشرها عبر الواتساب، أضافوا إليها مفردات عصرية من نوع «مناطقية». كان مما سيجنب الناس عناء ترويج النصوص الملفقة مجرد بحث بسيط لا يشق على الباحثين الجادين إن غاصوا في بطن أو حتى قلبوا صفحات مقدمة ابن خلدون، رحمه الله، أو عبر نافذة «جوجل Google» جزاها الله خيراً، ليجدوا الشيء الصحيح من عدمه. قد نكون مخطئين، فيما ذكرنا سلفاً، ونتمنى التصويب: فقل لمن يدعي في العلم معرفةً.. عرفتَ شيئاً وغابت عنك أشياءُ إنما بالرجوع إلى مقدمة ابن خلدون، المشهورة جداً بأكثر من كتابه الملحق: تاريخ ابن خلدون، حتى اهتم بها كثيرٌ من دارسي تراثنا العربي الإنساني فإننا نجدها احتوت ستة أبواب بفصولٍ كثيرة، قاربت المائتين فصل، بينت سطورها آيات ومقدمات ونهايات انهيار الدول «أو طروق الخلل بالدولة» في عدة فصول، ما أشد الحاجة لقراءتها.. والاعتبار منها.. إن أردنا الاعتبار. نستحضر بعضاً منها وبشكل موجز حرصا ًعلى وقتٍ ثمين (يتبدد هباءً!): بعد أن يشرح ابن خلدون تأثير البيئة على الإنسان، بمعنى الحياة وسط كهوف الجبال الجرداء أو الصحاري القاحلة وكذلك السهول المنبسطة والوديان الخضراء والسواحل الممتدة.. والبدو والحضر، والعرب والبربر والعجم.. يعد أجيال الدولة الأربعة وهم: بانٍ، مباشر له، مقلد وهادم.. ثم يصل إلى الفصل القائل «أن للدولة أعماراً طبيعية كما للأشخاص»، وقلص الأجيال الأربعة إلى ثلاثة أستجيزُ تكثيفها على النحو الآتي: الجيل الأول: جيل الاعتداد بشراكة المجد.. حينما يُناط الجهد بالجماعة المتسمة بالخشونة وشظف العيش. ثم الجيل الثاني: جيل الانفراد في المجد.. حينما ينفرد فردٌ مخضرم من الجماعة الأولى بدأ يخرج من طور الخشونة والشظف إلى طور الليونة والترف. وأخيراً الجيل الثالث: جيل انفراط عقد المجد.. وهو جيل الضياع الذي يعتني بتبديد ما بناه الأوائل. فصّل ابن خلدون أيضاً كيف تحصل الدولة بالعصبية، وتقوى بالدعوة الدينية المشتدة بعصبية أقوى على قوة العصبيات الأصغر. وأشار إلى أن كثرة العصبيات والقبليات يُضعِف قبضة الدولة، «قل أن تستحكم دولة كثيرة القبائل والعصائب». لم يتجنب ابن خلدون كذلك الحديث المفصل عن كيفية التفرد في مجد الحكم حتى يبلغ مرحلة الهرم.. «الهرم –الذي- إذا نزل على الدولة فإنه لا يرتفع»، لا سيما وقد انقسمت الدولة الواحدة إلى دولتين، وبدأ الظلم يؤذن بخراب العمران بعد انشغال السلطان بشؤونٍ غير شؤون الحكم والسلطان. هذا وقد تناولت المقدمة أشكال الحرب والعدوان، وأسبابه المتصلة بطبائع البشر، وفق خصائص الشعوب، وكيف يتميز العجم على العرب في حروبهم، واختلاف أساليب التقدم والزحف، وكذلك الكر والفر. ألا فلنَفِرُ إلى فحص ما تتلقفه أجهزتنا، إن استطعنا الفحص الواعي والعمل بقول ابن خلدون ذاته: «فليرجع الإنسان إلى أصوله، وليكن مهيمناً على نفسه، ومميزاً بين طبيعة الممكن والممتنع بصريح عقله، ومستقيم فطرته؛ فما دخل في نطاق الإمكان قَبِلَه، وما خرج عنه رفضه». * رئيس منتدى النعمان الثقافي للشباب القاهرة