يأمل الإنسان السويّ بأن تكون سيرته بين الناس دوماً خالية من الجوانب السلبية وإنما مليئة بالإيجابيات لتكون عطرة وزاكية، وفي سبيل تحقيق ذلك يجتهد الشخص في إظهار الحسن من سلوكه وإخفاء ما دون ذلك، وقد بيّن لنا المصطفى صلى الله عليه وسلم، في الحديث الشريف المثبت في صحيح مسلم، تعريف الإثم بأنه (مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ)، ينطوي هذا التعريف النبوي للإثم على ضابط داخلي (ما حاك في نفسك) وضابط خارجي (وكرهت أن يطلع عليه الناس). وفي حين أن الضابط الداخلي فردي وشخصي، ومن ثم فإنه قد يختل لدى بعض النفوس كالنفس الأمّارة أو النفس التي اعتادت الإثم، والعياذ بالله، أو بسبب وساوس الشيطان، إلا أن الضابط الخارجي يعوِّل على الرقابة المجتمعية لتفادي تفشّي وانتشار الأعمال غير الحميدة بين أفراد المجتمع. وسبيل النجاة للبعد عن الإثم هو، كما أرشد صاحب الخُلق العظيم صلى الله عليه وسلم في نفس الحديث الشريف، في عمل البر (الْبِرُّ: حُسْنُ الْخُلُقِ)، وينطبق ذلك على سلوك الشخص وصلاحه الاجتماعي بصفة عامة حيث يكون البر في الصدق والأمانة والتواضع وبذل الشخص من ماله ووقته وجهده في الأعمال الصالحة المختلفة، بينما يكون من الإثم الكذب والخيانة والتكبّر والسطو والسرقة والاعتداء على الغير... إلخ. ومن وجهة النظر الإدارية، فإن الإثم يتجلى في «الفساد الإداري» باستخدام المسؤول سلطته لتحقيق مصالح خاصة تتعارض مع المصالح العامة، سواء بجلب منفعة لأشخاص أو جهات محددة أو التسبب في ضرر لآخرين وفق أهواء ورغبات شخصية. وفي حين أن أبرز أشكال الفساد الإداري هو الفساد المالي المعروف بصوره المتعددة كالاختلاس والرشوة وغيرهما، إلا أن هناك أشكالاً أخرى للفساد الإداري والعامل المشترك بينها هو الحرص على التكتّم وانعدام الشفافية (وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ)، فعلى غرار حرص الفاسد مالياً على التكتّم وسِتر أفعاله كذلك الأمر بالنسبة لمقترف أحد أشكال الفساد الإداري الأخرى، فإن الفاسد إدارياً يحرص على مداراة أفعاله الحقيقية بشتّى السُبل. وبالإضافة إلى أهمية الشفافية لتفادي الفساد، كذلك فإن تتبّع النهج الإداري في المؤسسات الرائدة يؤكد على أنها تنتهج دوماً مبدأ الشفافية والتواصل الفعّال مما يثمر في تبنّي جميع المنتمين إلى منظومة العمل نفس التوجّهات ومن ثم تفاني أفراد المنظومة في تحقيق المستهدفات، كما أن تلك الشفافية تضمن، بإذن الله تعالى، الاستمرارية في نفس التوجّه (#ديمومة الترقي) حتى لو تغير الأشخاص. ويتوجب على المسؤول أن يميّز بين ما يخص الشأن العام الذي هو مؤتمنٌ عليه وما يتعلق به شخصياً ولا يؤثر على مسؤولياته ومهامه الوظيفية، ونستذكر هنا موقف شُريح القاضي في الحرص على إحقاق الحق لأهله، حيث جاءه في يوم من الأيام ولده وشرح له خصومةً بينه وبين قومٍ آخرين وطلب نصيحة والده فإن كان الحق له قاضاهم وإن كان لهم صالحهم، فلمَّا قصَّ عليه قصته قال له شُريح: انطلق فقاضهم. وعندما مضى الولد إلى خصومه ودعاهم للقضاء، استجابوا له ومثلوا بين يدي شُريح القاضي نفسه، فما كان من شُريح إلا أن قضى لهم على ولده، وعندما قال الولد لأبيه لاحقاً: فضحتني يا أبتي، والله لو لم أستشرك من قبل ما لمتك أبدًا، رد عليه شُريح: إنك يا بنيّ أحب إلي من ملء الأرض من أمثالهم، ولكنّ الله عز وجل أعزّ علي منك، لقد خشيت أن أخبرك بأن الحق لهم؛ فتصالحهم صلحاً ينقص عليهم بعض حقهم فقلت لك ما قلت. في هذه القصة آثر القاضي شريح الحرص على أخذ خصوم ابنه حقوقهم كاملة (بصفته المسؤول) على إسداء النصيحة الأفضل لابنه (بصفته الأب)، وعلّم بذلك ابنه (ويعلّمنا) درساً لأسمى الصور في أداء الأمانة الوظيفية. وفي هذا السياق، يبرز حرص القيادة الرشيدة رعاها الله، ونحن نشهد هذه النهضة التنموية الرائدة من خلال برامج رؤية المملكة 2030 المتنوعة، في إيضاح أهداف برامج العمل والمبادرات المختلفة وتحديد المستهدفات والمتابعة المستمرة لمستوى الإنجاز، مما يحتّم على كل مسؤول في موقعه أهمية تبنّي منهج الشفافية والوضوح في إدارة الأعمال، ونسأل المولى عز وجل أن يكلل جهود الجميع بتحقيق طموحاتنا ليبقى وطننا الغالي دوماً مسارعاً للمجد والعلياء، ملتزمين بالتوجيه الإلهي {وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ}. * وكيل وزارة الحج والعمرة لشؤون نقل الحجاج والمعتمرين