مُفعمٌ بالوقار ومُدوزنٌ بالفخامة، يسكب الدكتور محمد صبيحي صوته الرخيم الممتلئ فصاحةً ودفئاً في قوالب السامعين، محمولاً بأثير فائض السكينة تُغنّيه أناقته المترفة حنيناً وشجناً. عقودٌ طويلةٌ، لا يُنفك سماع حديثه بين مرتحلٍ وآخر، يتسجع المسافرون بابتهالاته قفولاً وعودة، وهم ينصتون لدعاء السفر الذي اعتادوه بصوته على متن خطوط «طيران السعودية» ومنها إلى وسائل نقل أخرى، مُرسخاً في دواخلهم علاقة وثيقة بين صوته وسفرهم حتى إذا سمعوه تداعى إليهم شعور الإقلاع والتحليق ونشوة السفر. محمد صبيحي المخضرم الذي يصنف على أنه من لبنات نهضة الإعلام المرئي والمسموع، من أولئك الذين حملوا مشعل التنوير والتطوير منذ ريادتهم بالوقوف خلف المذياع وصياغة أبجديات العمل الإذاعي في المملكة. وإن كان كثير من السعوديين لم يحفظوا ملامحه الهادئة أو يألفوا صورته، لكنه حتماً طبع على مسامع غالبيتهم بصمته الخاصة بابتهالاته وأدعيته، التي كانت ولا تزال تسبق الصلوات وتتبعها. ما مضى لم يكن إلا توطئة لقيمة الدكتور صبيحي في ذاكرة الناس، وما سيأتي لن يلامس الكثير من سيرته المتخمة بالإنجازات، التي بلغ معها مرتقىً رفيعاً في الإعلام العربي، حمل على عاتقيه مهمة كبيرة في بلورة الطموحات الكبيرة لرواد الإعلام السعودي، إلى إستراتيجيات وخطط تنتهي بتنفيذ دقيق يمهد لقاعدة راسخة لمستقبل قوي. كان شغوفاً بالإعلام، ولعبت رغبته في إثبات الذات دوراً مهماً في أن يكون أحد رموزه، ودخل إليه من نافذة الأدب حين اقترح على الإذاعي صالح جلال أن يأخذ عملاً له عبارة عن كتابة لحلقة درامية للبرنامج الإذاعي الشهير في حينها «دنيا»، نقلها إلى الراحل عباس غزاوي الذي أعجب بها وطلب مقابلته، وأنتجها بصوته الذي لقي إعجاب سامعيه لتكون تلك أول خطوة لحضوره في الإعلام مذيعاً، بعد أن أجيز من لجنة سباعية ضمت أهم عمالقة الإذاعة عباس غزاوي ورشيد علامة وجمال عباس وعبد الله الحصين وإبراهيم شعث والمخرج محمد غنيم. نال الدكتوراه والماجستير من جامعة جنوب كاليفورنيا، وتدرج في عمله بوزارة الإعلام، مذيعاً ثم مديراً لتلفزيون جدة، ووضع الدراسة لإنشاء القناة الثانية بالتلفزيون السعودي ثم عين مديراً عاماً، قبل أن تعهد إليه مسؤولية العمل الملحق الإعلامي في بريطانيا. وثق صبيحي خبراته ورؤاه الإعلامية عبر عدة مؤلفات أشهرها «التلفزيون السعودي ومراحل تطوره» و«لقاء في عكاظ لندن»، وعشرات البرامج أشهرها «أقوال الرسول» و«ما يطلبه المستمعون» و«أفراح الشعب» و«فكر واربح» و«مسرح الإذاعة».