من أهم الاختلافات بين النظام الدولي والنظام الداخلي لأعضائه (الدول) وجود سلطة مركزية فاعلة وقادرة ورادعة تمتلك إمكانات فرض إرادتها على مجال سيادتها الإنساني والجغرافي. أهم ما يفتقر إليه النظام الدولي، عنصر القوة الإلزامية للسلطة، بفرض إرادتها بالإكراه والجبر. في النظام الدولي قد يكون هناك قانون، إلا أنه لا تتوفر لديه القوة الإلزامية لفرضه.. وقد يكون به مؤسسات لفض المنازعات بين أعضائه، إلا أن تسوية النزاعات بين الدول يتوقف على قبولها أو رفضها اللجوء للمؤسسات الدولية المعنية بذلك. هناك إذن: نظام دولي، إلا أنه ليس فاعلاً ولا نافذاً ولا رادعاً، كذلك الذي يسود أعضاءه. لذا: غلبت تاريخياً على علاقات الدول حركة الصراع، لا سلوك الانضباط والالتزام. هذا يرفع من وتيرة معضلة الأمن، كأهم هاجس إستراتيجي يشغل الدول. الدولة تبقى في أمان من تقلبات الأوضاع الإقليمية والدولية من حولها، إذا ما استطاعت أن توفر المتطلبات الدفاعية، التي تستطيع من خلالها ردع خصومها ومنافسيها وأعدائها، الإقليميين والدوليين، من الإضرار بأمنها.. أو الاقتراب من مصالحها، أو تجاوز سيادتها الوطنية. مع ذلك لا يمكن القول: بأن النظام الدولي فوضوي وعشوائي، على إطلاقه، يفتقر للاستقرار ولا تتوفر لديه إمكانات التوازن وآليات فض النزاعات وحل الخلافات بين أعضائه، بعيداً عن خيار اللجوء للقوة.. أو الزعم: بأنه لا يمتلك إمكانات ردع ذاتية لضمان استقراره وتوازنه. النظام الدولي، بعبارة أخرى، لا تحكمه قوانين الصراع من أجل البقاء، كما هو الحال في عالم الحيوان. شريعة الغاب لا تعكس وضع النظام الدولي، وليست هي التي تتحكم في سلوك أعضائه، رغم ما تتمتع به شريعة الغاب من إمكانات طبيعية في بقاء الأنواع وتكاملها.. وضمان تطورها وتقوية سلالتها. في النهاية: الدولة مهما بلغ هاجس الأمن عندها، إلا أنها لا تعتمد ولا يجب أن تعتمد، على إمكاناتها الدفاعية المادية الذاتية وحدها، مهما بلغ غناها في إمكانات القوة الإستراتيجية، باختلاف وتنوع مصادرها. غريزة البقاء لدى الدولة تدفعها للاستفادة من تناقضات وهشاشة وعشوائية الأوضاع الخارجية. مع ما يتوفر من إمكانات مادية.. وأضاع «جيوسياسية».. ومصالح مشتركة مع أطراف إقليمية ودولية، وعلاقات ثنائية أو جماعية مع أصدقاء أو فرقاء إقليمين ودوليين، يُتاح للدولة القدر الكافي من الردع اللازم، للحفاظ على أمنها. النظام الدولي، إذن: بالرغم من عدم توفر سلطة دولية مهيمنة عليه، إلا أنه يتمتع بآليات ذاتية لحفظ توازنه.. والتحكم، إلى حدٍ كبير في سلوك أعضائه، من أجل الحفاظ على معدلات مرتفعة لاستقراره، تماماً ولحد كبير، كما تحافظ قوانين الطبيعة على توازن مقومات الحياة على الأرض، بالرغم من سيادة حركة الصراع بين الكائنات. هناك ميل غريزي عند النظام الدولي بالرغم من وضعه الهش للاستقرار، عن طريق الحفاظ على حدٍ أدنى من التوازن بأعضائه. كلما ساهمت مؤسسات وقيم النظام الدولي في ضبط توازنه، كلما نجحت في الحفاظ على استقراره. كل نظام دولي، منذ بدء تاريخ الأنظمة الدولية الحديثة نهاية القرن السادس عشر، كان يحتفظ بآلية توازن بين فعالياته، مهما بلغت حساسية وتوتر العلاقة بين أقطابه. بالتبعية: مع الوقت تلاشى، شيئاً فشيئاً، هاجس الأمن.. وأخذت بشائر التعاون وعوائد التكامل، تسفر عن إمكاناتها الواعدة، بعد أن ثبت جلياً استحالة تكرار الحروب الكونية، بسبب التطور الإستراتيجي الرادع للسلاح النووي المُهلك.. وكذلك بعد أن ارتفعت بصورة كبيرة تكلفة الحرب، وثبتت عدم فاعليتها، حتى على مستويات الحروب المحدودة التي تستخدم فيها الأسلحة التقليدية. عندها حدث التطور الحاسم في حركة الظاهرة السياسية في مجالها الخارجي، من حالة الصراع المزمنة إلى وضعية التعاون الواعدة. حدث هذا التطور، أول ما حدث، على مسرح الحروب التاريخية الحاسمة في الساحة الأوروبية، عندما بُدِئ في تجربة التكامل الإقليمي في منتصف خمسينيات القرن الماضي، لتصبح بعد ستة عقود أكبر وأمتن تجربة تكاملية تضم 25 دولة، في أكثر بؤر التوتر المسببة للحروب الكونية في تاريخ البشرية. سرعان ما تكررت التجربة في مناطق مختلفة من العالم، في الأمريكتَين وفي آسيا والشرق الأوسط وأفريقيا. لم يعد هاجس الأمن، يعكس الحالة غير المستقرة والمتوترة للنظام الدولي، بسبب عدم وجود حكومة عالمية فاعلة ورادعة فيه. أضحت بشائر عوائد التكامل الإقليمي والتعاون الدولي، إلى حدٍ كبير، تستحوذ على سلوك الدول واهتماماتها في الوقت الحاضر. التكامل الإقليمي ليس فقط يقلل من وطأة هاجس الأمن لدى الدول، بل يعين الدول على تجاوز معضلة ندرة الموارد.. وعدم قدرتها على تلبية احتياجات التنمية للشعوب. خطأ إستراتيجي خطير ترتكبه الدول إن هي عادت إلى مرحلة ما قبل تجربة التكامل الإقليمي، لتتوه مرة أخرى في ظلمات حركة الصراع.. وتمضي، من جديد، عكس حركة التاريخ. [email protected]